الاتحاد الاقتصادي والنقدي في أوروبا
كان صناع السياسات الأوروبيون منشغلين طيلة عام كامل بإصلاح الخلل في تصميم الاتحاد الاقتصادي والنقدي. وكما هي الحال مع البرمجيات المعيبة، قدموا لنا إصدارات جديدة متعاقبة من الاتحاد الاقتصادي والنقدي بوتيرة محمومة ـــــ فقط لكي يكتشفوا نقاط ضعف متبقية بعد فترة وجيزة. ولكن بعد قمتين في آذار (مارس)، يزعم المسؤولون الأوروبيون الآن أنهم أنتجوا نسخة محسنة خالية من العيوب من الاتحاد الاقتصادي والنقدي. تُرى هل يسعنا أن نمنحهم ثقتنا هذه المرة؟
تبدأ الإجابة عن هذا التساؤل من أصل كافة المتاعب التي يواجهها الاتحاد الاقتصادي والنقدي: منع الأزمات. فقبل عام 2010 كانت عملية منع الأزمات تكاد تقوم بالكامل على مراقبة عجز الموازنات، وهي ما كان يتم في إطار ميثاق الاستقرار والنمو (هذا فضلاً عن إجراء لمراقبة اقتصادية أوسع نطاقا، ولكنها تفتقر إلى الثِقَل السياسي). لقد كشفت الأزمة عن مشاكل كبرى فيما يتصل بتنفيذ هذا الإطار، ولكنها كشفت أيضاً عن مشاكل كبرى خاصة بالتصميم: فلم نر أي ضوء تحذيري يشير إلى أن إيرلندا أو إسبانيا مهددة بأي خطر.
من المفترض أن يأخذ النظام الجديد في الاعتبار نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي (وهو ما من شأنه أن يضرب قدرة إيطاليا على الحفاظ على أعباء ديونها الهائلة الحجم) والالتزامات الضمنية (على سبيل المثال، سوف تضطر أي دولة تعاني من قطاع مصرفي متضخم الحجم إلى مواجهة تكاليف إنقاذ محتملة). وسيتم تبسيط المناقشات فيما يتصل بالعقوبات بالاستعانة بما يطلق عليه «قاعدة الأغلبية المعكوسة»، والتي تعتبر بموجبها توصية المفوضية الأوروبية باتخاذ أي قرار ملزمة ما لم يتم رفضها من قِبَل أغلبية وزراء البلدان الأعضاء. وكل هذا مشجع.
وهناك علامة ثانية إيجابية تتمثل في الاعتراف بأن ليس كل الأزمات ترجع إلى الافتقار إلى الانضباط المالي؛ فمن المتفق عليه الآن أن كلاً من الاستقرار المالي واستقرار الاقتصاد الكلي يشكل أيضاً أهمية. ولكن الإطار الذي يحكم السياسة الجديدة يبدو غامضاً بعض الشيء. ذلك أن الأمر لن يشتمل على أقل من ثلاثة إجراءات أوروبية مختلفة ومتداخلة جزئيا ـــــ للموازنات، والخلل في توازن الاقتصاد الكلي، والاستقرار المالي. وتهدد العمليات الحكومية الخرقاء بحجب الأولويات، وإرباك صناع السياسات، وإنهاك موظفي الخدمة المدنية.
ولهذا السبب، يُخشى أن يحتاج نموذج الحكم إلى الإصلاح قريبا، وأن يضطر الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ القرار فيما يتصل بالمواقف التي يتعين عليه فيها أن يعتمد بشكل أكبر على أطر وطنية خضعت للإصلاح (على سبيل المثال فيما يتصل بانضباط الموازنة)، ومتى يتعين عليه تخصيص المزيد من المسؤوليات والصلاحيات للاتحاد الأوروبي (على سبيل المثال الإشراف المصرفي). والواقع أن التأكيد الجديد على قواعد الموازنات الوطنية يُعَد تطوراً مرغوبا ــــ ولكنه لا يشكل أكثر من خطوة أولى.
وفي الوقت نفسه يصبح إصلاح إدارة الأزمات وعملية اتخاذ القرار شبه مستحيل، بسبب غياب أي شيء ملموس. لذا، أضيفت الآن ركيزة جديدة للصرح الأوروبي. ونتيجة لهذا فإن الاتحاد الاقتصادي والنقدي سيكون مجهزاً الآن بالقدرة على تقديم المساعدة لأي من البلدان الأعضاء التي تفقد القدرة على الوصول إلى الأسواق من أجل تنظيم عملية إعادة هيكلة ديونها العامة. إن الاتفاق على تأسيس مرفق لتوفير السيولة، إلى جانب إجراء خاص بالإفلاس، كان يعني ضمناً إعادة النظر في المبادئ الأساسية ــــ وخاصة الفقرة الخاصة بعدم الإنقاذ ــــ الأمر الذي أظهر أن أوروبا قادرة على التعلم من أخطائها.
ولكن النظام الجديد لا يخلو من العيوب. فأولا، من الغريب أن تتفق أوروبا على تقديم المساعدة كملاذ أخير فقط، وبالإجماع وبشروط قاسية، في وقت حيث أنشأ صندوق النقد الدولي مرافق تعمل كملاذ أول، وبشكل شبه تلقائي، وبشروط مخففة من أجل مساعدة البلدان التي تضربها تدفقات رأس المال الفجائية إلى الخارج. لذا فقد نشأ الآن خطر يتمثل في احتمالات إفضاء الإطار الأوروبي إلى خلق مجال للمضاربة المالية.
وثانيا، سلك الاتحاد الأوروبي المسار القانوني الأقل صعوبة لحل أزمات الديون: أو ما يطلق عليه «النهج التعاقدي»، والذي يهدف إلى تيسير الاتفاق مع الدائنين التابعين للقطاع الخاص. ولكن القسم الأكثر إثارة للجدال من عملية إعادة هيكلة الديون قد يصل إلى اتفاقيات بين حكومية. وكان الإجراء القانوني الرسمي ليساعد كثيراً في هذا السياق.
ثالثا، وكما تتسبب أي نسخة جديدة من البرمجيات القائمة في كثير من الأحيان في خلق مشاكل خاصة بالتوافق مع الملفات المنشأة بنسخ قديمة من البرنامج، فإن انتقال الاتحاد الاقتصادي والنقدي إلى النظام الجديد قد يشتمل على مصاعب. فحتى باستبعاد البرتغال، التي تواجه مأزقاً خطيراً الآن، تظل مشاكل عدة تنتظر الحل. وهناك حاجة ملحة إلى التعجيل بحل الأزمة المصرفية، والتي تشكل اختبارات الإجهاد الشاملة الجديرة بالثقة خطوة أولى لا غنى عنها. والواقع أن التحرك الأخير من قِبَل إيرلندا يُعَد بمثابة أنباء طيبة ولكنه يشكل قدراً من التباطؤ في أماكن أخرى ــــ وخاصة ألمانيا ــــ ويمنع عودة الثقة.
وهناك حاجة لا تقل أهمية إلى التمييز بين إفلاس الدولة وعدم توافر السيولة لديها. فمن المرجح أن تجد اليونان نفسها مفلسة، هذا فضلاً عن تساؤلات تحيط بقدرة إيرلندا والبرتغال على سداد ديونهما. والواقع أن الأسواق لا بد أن تدرك ماذا قد يحدث إذا جرى شكل ما من أشكال إعادة هيكلة الديون قبل العمل بالنظام الدائم في عام 2013، كما يتعين على البنك المركزي الأوروبي أن يفكر في الكيفية التي سيتخلص بها من سندات البلدان الواقعة على المحيط الخارجي على قوائمه المالية. ومرة أخرى، لن تعود الثقة إلا بعد تقديم الإجابات.
أخيرا، وليس آخرا، لا بد أن يفترض أي حل في هذا السياق سلفاً وجود العنصر الأكثر أهمية على الإطلاق: والذي يتلخص في استراتيجية الاتحاد الأوروبي الفعّالة فيما يتصل بإحياء ودعم النمو في جنوب أوروبا. إن الاتحاد الأوروبي ليس محروماً من الأدوات ــــ أو ما يطلق عليه «الصناديق البنيوية» التي تمول الاستثمار في المناطق الأكثر فقرا ــــ ولكنه يفتقر إلى الاستراتيجية اللازمة لاستخدام هذه الأدوات.
لذا فقد يكون من الأفضل أن نطلق على ما أسفرت عنه عِدة أشهر من المناقشات «الاتحاد الاقتصادي والنقدي 1.7.3» وليس «الاتحاد الاقتصادي والنقدي 2.0». ذلك أن المزيد من الشوائب والعيوب لابد أن تزال، بما في ذلك العيوب الجديدة التي ستكتشف في الإصلاحات. وبالنسبة للمستثمرين فإن عملية الإصلاح قد تبدو طويلة ومترددة إلى الحد الذي قد يجعلها مستحيلة. ولكنها بالقياس إلى معايير المفاوضات الدولية والحوكمة الأوروبية كانت في واقع الأمر سريعة بشكل استثنائي.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.