مشاريع الإسكان في خدمة التوظيف

المخاطر الجماعية أشد فتكا من المخاطر الفردية! فالفرد الذي يشعر بخطر يهدد حياته المعيشية تدفعه فطرته إلى درء هذا الخطر بأقصى ما يستطيع، وإن فشل فالخطر لا يتعداه. لكن إذا اتسع الخطر الفردي وتحول إلى خطر جمعي - كخطر البطالة - فسيكون حينها أشد خطورة. ومصدر الخطر هو أن الإحساس بالمخاطر الاجتماعية يقل إذا لم يكن في المجتمع مؤسسات وقنوات تنظيمية تعمل كمجسات تنذره بوجودها، أو إذا ضاعت مسؤولية مواجهتها وتناثرت بين أطراف متعددة، أو إذا فقد المسؤولين الأصليين عنها من متخذي القرار الإحساس بخطرها لمجرد أنهم ليسوا ممن يكتوون بنارها، فيحصل تراخٍ من جانبهم يجعل الخطر يتراكم ويزداد تعقيدا عبر الزمن. وستبقى البطالة أخطر تحدٍ اقتصادي يهدد سلامة واستقرار مجتمعنا، طالما استمر عدد السكان في بلادنا ينمو بأكثر من قدرة اقتصادنا على توليد فرص العمل، وطالما استمر هيكل سوق العمل مشوها، وطالما بقينا نتخبط في العمل دون استراتيجية محكمة تضعنا على طريق الحل، أو دون نقل هذه الاستراتيجية - إن وجدت - من مجرد أفكار على الورق إلي برامج ملزمة ومطبقة على الواقع.
ولا فائدة ترجى من التراخي في وضع حد لهذه المعضلة الكبيرة، ففي كل سنة تدخل لسوق العمل أجيال جديدة تتطلع إلى تحقيق أمنها الوظيفي، وتحقيق هذا الأمن مرتبط بتطوير أنظمة المجتمع في مجالات متعددة كالتعليم والصحة والقضاء والإسكان؛ فالتصنيف الشامل للمخاطر التي تتهدد أمن الإنسان حسب تعريف المنظمات الدولية يقوم على ''تحرر الإنسان من التهديدات الشديدة المنتشرة والممتدة زمنيا التي تتعرض لها حياته وحريته''.
من الواضح أن حل مشكلة البطالة في مجتمعنا يتطلب نوعين من الإجراءات، أولهما قصيرة الأجل والأخرى طويلة الأجل. في المدى القريب يجب أن تتركز الجهود على وقف استفحال الظاهرة عبر تبني برامج إنفاق ومشاريع حكومية تهدف لتوظيف أكبر عدد من العاطلين المؤهلين أو الذين ينقصهم تدريب بسيط. والمتخصصون من الاقتصاديين يعلمون أن الدول تتقصد أحيانا تبني برامج إنفاق معينة يكون من أغراضها الكبرى امتصاص جزء من البطالة المتفشية، حتى أن بعض المؤرخين الاقتصاديين يعتقدون أن مشاريع بناء الأهرامات في العصر الفرعوني كان بغرض القضاء على بطالة متفشية في المجتمع آنذاك. ونحن نعلم أن واحدة من أكبر عيوب برامج الإنفاق الحكومي في اقتصادنا أن جزءا كبيرا من أثرها التضاعفي التتابعي Multiplier effect على مختلف قطاعات الاقتصاد يتسرب لخارج الاقتصاد؛ لأن أغلب العاملين المنفذين لهذه المشاريع هم من الأجانب.
في حديث مع أحد الأصدقاء المهتمين بالهمّ الاجتماعي، دعاني لتذكير من يهمهم الأمر بأهمية التفكير في كيفية تحويل برنامج الدعم الضخم لقطاع الإسكان الذي أعلن عنه خادم الحرمين الشريفين أخيرا ليكون برنامجا لتوظيف العاطلين في شتى التخصصات، خاصة وأن تنفيذ هذا البرنامج سيستغرق فترة زمنية طويلة قد تمتد لنحو عشر سنوات. فهو إذاً فرصة عظيمة يجب ألا تفوتنا، لنجعل منه برنامجا يحقق هدفين لا هدفا واحدا: زيادة عرض المساكن، وزيادة فرص العمل. لكن حتى نحقق هذه الفائدة ينبغي ألا يخضع تنفيذ هذا البرنامج للإجراءات التقليدية المعتادة عند تخطيط وبرمجة وترسية هذه المشاريع على مختلف شركات المقاولات الخاصة. فمن الممكن جدا وضع دراسة تفصيلية لنوع وعدد الوظائف التي يمكن أن يولدها هذا المشروع ومطابقتها مع بيانات الباحثين عن عمل من المهندسين والإداريين والفنيين السعوديين، حيث نجعل ضمن معايير المفاضلة عند ترسية المشاريع قدرة الشركة المنفذة على استيعاب وتوظيف وتدريب أكبر عدد ممكن من العاطلين. كم نحن في حاجة إلى دراسة عميقة لهذه الفكرة؛ لأن شدة تعقيد معضلة البطالة تقتضي وجود برامج استيعاب سريعة، تعطينا فسحة من الوقت ريثما تؤتي الحلول الطويلة الأجل المتعلقة بتطوير مخرجات التعليم ثمارها. إنها دعوة لجعل مشاريع الإسكان أداة تسهم في حل مشكلة البطالة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي