خاطر بعقل

تماما كما يقال: "السفن الآمنة التي تقبع عند الشاطئ لا يمكن أن تكتشف الموانئ الجديدة"!
تخيل لو أنك احتجت إلى السفر لصفقة تجارية مهمة أو لحضور حفل زواج لصديق عزيز في مدينة أخرى أو لأي غرض آخر، ولكنك وبعد تفكير طويل ألغيت الفكرة؛ لأنك تخاف من ركوب الطائرة وتعتقد أن ركوبها مخاطرة كبيرة، حيث نسمع صباح مساء عن حوادث سقوط وتحطم الطائرات.. فما رأيكم؟ لكن هل متعة ركوب طائرة عادية مثل ركوب باراشوت طائر؟ أو القفز المظلي من فوق جبل شاهق أو طائرة محلقة؟ لا شك أن الثاني أمتع وأكثر إثارة من الأول، والسبب الوحيد في هذا هو أن الثاني فيه نسبة مخاطرة أعلى. وما رأيكم في مريض يرفض إجراء عملية جراحية بسيطة مثل استئصال الزائدة الدودية بسبب الخوف من مضاعفات العملية؟
المخاطرة جزء من حياتنا اليومية لا يمكننا أن ننفك عنه، وهي إذا كانت مدروسة وضمن الحدود المعقولة شرط أساس لأي إنجاز كبير ومهم. لا يمكن لنا ولا لغيرنا أن نصل إلى الإبداع والتفوق دون شيء من المخاطرة. لكنها إذا كانت من غير دراسة أو خرجت عن المألوف صارت تهورا ربما أدت إلى ضرر أكبر بلا شك، هي مثل بهارات الطعام تماما لا يمكن أن تعد وجبة شهية من دون توابل، لكن إذا زادت التوابل عن حدها فسدت الطبخة.
ولكن المخاطرة لا تكون فقط في الأمور الجسمية والحركية، المخاطرة أنواع كثيرة، كل مناحي حياتنا يمكن أن تكتنفه المخاطرة. فمن المخاطرة الاجتماعية تعرض الإنسان إلى بيئات وحضارات وثقافات أقوى منه وغمس نفسه فيها. هذه المخاطرة إذا كانت - مرة أخرى - ضمن حدود مرسومة ومنطقية تكون من أهم أسباب النهوض الثقافي والفكري، وأما إذا كانت تهورا فقد تؤدي إلى مسخ الهوية والضياع الفكري. وكذا المخاطرة في التعرف على أصدقاء ومجموعات جديدة مختلفة عن توجهات الشخص وميوله النفسية والفكرية وتحدي السائد الاجتماعي الذي لم يبن على أي أساس صحيح وغير ذلك من أمثلة المخاطرة الاجتماعية.
ومن أنواع المخاطرة المخاطرة المالية، ويعلم التجار حتما أنه لا ربح عاليا من دون مخاطرة عالية. الذين لا يقبلون نسبة مخاطرة عالية سينحصرون في هامش الربح البسيط ولن يحققوا الأرباح الفلكية أبدا.
ومن أهم أنواع المخاطرة، المخاطرة العلمية، فالذين لا يختبرون الحقائق العلمية ويخضعون كل شيء للتجربة والتشكيك العلمي سيبقون عالة على علوم من سبقهم لا يكتشفون جديدا ولا يطورون علومهم. ينطبق ذلك على كل أنواع العلوم الإنسانية والتجريبية، فالعقل الذي يتحدى السائد ويجرب الجديد يخاطر حتما، لكنه وحده الذي يمكنه أن يصنع الفرق ويذهل العالم. وهكذا هي المخاطرة في جميع مناحي الحياة الأخرى، شرط أساسي للإبداع والتميز.
والعجيب أن تقبل الإنسان المخاطرة وإقدامه عليها يختلف باختلاف نوع المخاطرة، فستجد أشخاصا يمكنهم المخاطرة في القضايا العلمية والفكرية وربما الاجتماعية، لكن يجبنون جدا في الأشياء الجسدية، وتجد آخرين على العكس مستعدا لأن يقفز من فوق جبل شاهق، لكنه غير مستعد لأن يفكر في قضية بطريقة جديدة أو أن يخرج عن المألوف له اجتماعيا وهكذا.
إدارة المخاطر علم وفن يدرّس ضمن تخصصات الإدارة والجودة، وله أسسه المعروفة وتجرى حوله الأبحاث العلمية الكثيرة، وهدف هذا العلم هو قياس نسبة المخاطرة وإدارتها بحيث يمكن توقعها وتجنبها والتعامل معها إذا وقعت، خاصة في المجالات التي يكون فيها الخطر متعلقا بحياة الإنسان مثل الرعاية الصحية.
وحدهم الذين يخاطرون بعقل ويدفعون الحدود برفق وإصرار هم الذين سيصلون للأماكن الجديدة وسيضيئون الزوايا المظلمة وسيصنعون لنا المستقبل، أما الموسوسون الخائفون المترددون فسيظلون يلعنون الظلام يراوحون أماكنهم وسيمر الزمن من أمامهم ويبتسم لهم ويقول لهم مع السلامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي