السعودة وصناعة الثروة (3 من 4)
عوداً على ما بدأناه في مقالاتنا السابقة فإن الحديث عن الإحلال الوظيفي الوطني ''السعودة'' يتحول إلى مجرد استهلاك صحفي متكرر ما لم تبادر الجهات المعنية إلى النظر والتأمل والتدقيق الفاحص في كل الأفكار المطروحة على الساحة لتصنع منها استراتيجية شاملة، ومنهجية ثابتة في التوظيف الوطني والبناء المجتمعي، وكنا قد تحدثنا في معرض مقالاتنا السابقة في هذا الخصوص عن الكثير من الحلول العملية والإجراءات الوقائية، إضافة إلى اضطلاع الجامعات والمؤسسات التعليمية بمسؤوليتها تجاه إعادة هيكلة التخصصات التعليمية والتركيز على المهارات بما يتلاءم مع الاحتياجات المستقبلية لسوق العمل، وتعزيز الوعي المجتمعي بالدفع نحو المجالات المهنية والحرفية لصناعة التكامل المفقود، وبناء المجتمع المنشود.. وحديث اليوم لا يختلف عن حديث الأمس، فما زالت زوايا أخرى في القضية بحاجة إلى دقة في قياسها، وتثبيتها في موضعها الصحيح لتقوم حزمة الحلول التي أدعو إليها على قواعد قوية وثابتة، ونخرج منها برؤى واضحة للمشكلة.. وإن ما أتم به المتابعة، وأكمل به المبادرة هو الحديث عن الدور الكبير لرجال الأعمال (وليس رجال المال!)، والمساهمة الفاعلة لصندوق تنمية الموارد البشرية، حيث إن تضافر الجهود في مشروعات التنمية الوطنية مسؤولية الجميع للوصول بالوطن والمواطن إلى أرقى درجات الرفاهية والتقدم، الأمر الذي يلقي بالدور الكبير على رجال الأعمال لتكوين شراكة مع الجهات الحكومية والمجتمع تبنى على أسس قوية وواقعية، وتتجاوز الصعوبات إلى الحلول العملية والتنفيذية المعتمدة على التدريب والتأهيل وزيادة الحوافز التشجيعية لرفع المعاناة من التسرب الوظيفي للشباب السعودي في القطاع الخاص، وتمكينه من المحافظة على كادره الوطني، فقد كشفت إحصائية أصدرتها وزارة العمل أن عدد السعوديين الذين انسحبوا من العمل في القطاع الخاص وصل إلى (115) ألف عامل؛ أي أن نسبة توطين الوظائف في القطاع الخاص انخفضت بنحو (17.8%)، حيث بلغ عدد العاملين السعوديين في القطاع الخاص (680) ألف عامل في نهاية عام 2009، لنتذكر هنا ما كان قد توصل إليه الراحل القصيبي ـــ يرحمه الله ـــ في هذه المشكلة حين قال: ''مشكلتنا أننا نريد أن نوظف شابا غير جاد عند صاحب عمل غير راغب به'' نتذكر هذه المقولة فنعتب ونتساءل: أين دور صندوق تنمية الموارد البشرية في تنمية قدرات الشباب وتطوير مهاراتهم لتأهيلهم عملياً لتحقيق الكفاءة والإنتاجية عند توظيفهم من خلال برامج منهجية مبنية على احتياجات واقعية تسمح ببناء برامج تسهم في بناء جسر المهارات المفقود، لا أحسب أن صندوق تنمية الموارد البشرية يحقق فاعليته الحقيقية عندما يكتفي بالدعم الذي يقدمه فقط، أو الاتفاقيات التدريبية التي يعقدها مع الجهات التجارية فحسب، فهو رمى الخيط والمخيط بيد القطاع الخاص وسلمه الجمل بما حمل وقال له درب وأنا أدعم، والقطاع الخاص ذكي جدا فانتهز هذه الفرصة الذهبية وأنشأ مراكز التدريب (البيضة الذهبية) والتي تدر عليه مالا وفيرا وسهلا!، فالصندوق يدعم فقط!
لا بد أن يبدأ الصندوق بالعمل الجاد في إنشاء معاهده التدريبية وبيوته التطويرية والتي تتناسب في مناهجها وبرامجها مع احتياجات سوق العمل الحالي والمستقبلي، لا بد من وجود استراتيجية واضحة تحدد المهارات المستهدفة التي يحتاج إليها القطاع الخاص، التي تساهم في التوظيف لتعمل ضمن منظومة التجسير المطلوب لدمج الشباب السعودي الطموح في العمل الجاد الذي سيساعد في بناء وطنه. إن الاستراتيجيات تحدد من خلال الدراسات الجادة من قبل الأشخاص الأكفاء ومن خلال ورش العمل ذات الأهداف المحددة للوصول إلى المهارات التوظيفية المطلوبة. وإن عذرنا الصندوق فيما مضى فلن نستطيع أن نعذره مستقبلا خصوصا وهو يحظى بعناية خاصة من القيادة ودعم مادي تجاوز التوقعات، كما لا يمكن أن نعذره في ظل التدفق المتزايد من الشباب الباحث عن العمل والتسرب الكبير لمن تم تشغيلهم سابقا، فالمشكلة لا تنتهي عند توظيف الشباب فقط، ولا عند حث القطاع الخاص على الحوافز والتدريب على رأس العمل أيضاً، بل لا بد من تأهيل الشباب أولاً وهذه من أولى مهام صندوق تنمية الموارد البشرية وعلى رأس أولوياته، فلطالما طالعتنا الصحف ومواقع التوظيف بوظائف شاغرة أقل شروطها إتقان التعامل مع الحاسب الآلي، فضلاً عن إجادة اللغة الإنجليزية تحدثاً وكتابة، فكيف سيواكب شبابنا هذه الاحتياجات على فرض أنها حقيقية وليست تعجيزية ـــ كما هي في بعض الأحيان ـــ ونحن لم نقدم لهم هذه العلوم والفنون بعد، إنه لا بد أن ننطلق في توطين التوظيف من خلال نظرة دقيقة وشاملة للوصول بالشاب السعودي إلى إنتاجية حقيقية تعود عليه وعلى وطنه بالفائدة والرقي، لا أن نقوم بدور الوسيط أو الزج به في أية وظيفة شاغرة ثم لا يلبث طويلا حتى يتسرب منها، لنفاجأ بعد ذلك بأرقام عالية جداً عائدة إلى خانة البطالة بعد أن خرجت منها، ثم ماذا عن الجهود التي بذلت مثلا في سبيل توظيف الـ 115000 شاب المتسربين من القطاع الخاص، كما في الإحصائية أعلاه. إنني أدعو كل الجهات المعنية بما فيها صندوق تنمية الموارد البشرية إلى العمل على صناعة الموارد البشرية أي الاستثمار في رأس المال البشري، والاتجاه نحو التدريب والتطوير للقدرات والمهارات وعقد الورش والندوات لمعرفة اتجاهات واحتياجات وتطلعات القطاع الخاص، إضافة إلى بناء قاعدة معلومات شاملة والاستفادة من أفكار بعض الدول المتقدمة في هذا المجال، فبالإمكان إنشاء ''بنك وطني للتوظيف'' يمتلك قاعدة معلومات ضخمة للوظائف الشاغرة في القطاعين العام والخاص تحدث يومياً، وإتاحتها للباحثين عن العمل من خلال مواقع إلكترونية، أو من خلال نشرة أسبوعية، أو من خلال وسائل الاتصال الجديد، جنبا إلى جنب مع بذل منشآت القطاع الخاص المزيد من الجهود في تدريب المتقدمين والموظفين على رأس العمل، وتطوير مهاراتهم على ضوء احتياجاتها المهنية، فلا شك أن تدريب العامل وتأهيله يرفع من نسبة إنتاجيته وتجعله أكثر حفاظاً وحرصاً على العمل. كما أدعو إلى أن يقوم الإعلام بشتى وسائله بدعم التحركات الإيجابية لحل مشكلة البطالة، والحد من تفاقمها في أوساط مجتمعنا سواء كان في التوجيه والإرشاد، أو كان في الدلالة على فرص التطوير والتوظيف، أو كان في إعادة بناء الثقة بالكادر السعودي وتعزيز ثقافة العمل المهني والحرفي لتتعدد المصادر وتتنوع المداخل، فنحن بحاجة إلى قرارات ضرورية وحاسمة لإجراء العديد من الخطوات المهمة لمواجهة مشكلة البطالة قبل أن تتفاقم أكثر، وتستعصي على العلاج ولا سيما واقتصادنا يحقق نمواً مرتفعاً، واستقراراً جاذباً، حيث يتوقع أن تتنوع مصادره في العقد المقبل لتصبح العديد من المعادن والصناعات الدعامة الثالثة في نموه وارتفاعه، وإذا كانت التقارير قد توجت هذا التوجه باستثمار بلايين الدولارات في التعليم وتطوير المهارات خلال السنوات الثلاث الماضية 2007 إلى 2010، فإن الحاجة لا تزال قائمة إلى إنفاق أكثر لمواكبة النمو الاقتصادي والصناعي القادم الذي سيوفر الكثير من فرص العمل المستقبلية وسيمكن من توطين الوظائف الوطنية.... يتبع