دستور مصر ووصفة السنهوري

أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية إعلاناً دستورياً ضمّ 62 مادة، لتشكّل الإطار الدستوري، الذي ستعمل به مصر حتى صياغة دستور جديد، بعد إجراء الانتخابات التشريعية في أيلول (سبتمبر) المقبل والانتخابات الرئاسية بعدها بشهر أو شهرين. وحسب المستشار طارق البشري رئيس اللجنة التي صاغت الإعلان، وهي اللجنة ذاتها التي أعدّت المواد الست التي جرى الاستفتاء عليها يوم 19 آذار (مارس) الماضي ووافق عليها 77 في المائة من المصريين، يكون دستور عام 1971 قد انتهى مفعوله وأصبح غير صالح للاستخدام.
الاستفتاء والإعلان الدستوري أثارا تداعيات كثيرة وجدلاً قانونياً وفقهياً لم ينقطع، وفي غمرة هذه الأجواء استعيد دستور عام 1923 الذي حكم البلاد لغاية ثورة 23 تموز (يوليو) 1952، كما تم استذكار دستور كان قد أعدّه الفقيه والمفكر القانوني العلاّمة عبد الرزاق السنهوري في عام 1954 بتكليف من حكومة الثورة، لكنه أهمل ووجد في وقت لاحق من يزيح النقاب عنه حين نشر الصحافي والكاتب صلاح عيسى رئيس تحرير جريدة "القاهرة" نصّه، كما عُثر عليه فوق صندوق القمامة، وبالعنوان ذاته.
لعل هذه المناسبة فرصة لاستحضار السنهوري وما تركه على صعيد الفكر القانوني ليس في مصر حسب، بل في العالم العربي كلّه، ومن أقصاه إلى أقصاه، مثلما كانت الجاذبية المصرية هائلة وكبيرة على صعيد التغييرات التي شهدها العالم العربي، وظلّت تمور في أحشائه لسنوات طوال.
يعد السنهوري أحد عمالقة الفكر القانوني العالمي وأبرز رموزه العرب، لا سيما في القانون المدني وفقه الشريعة الإسلامية، خصوصاً في فقه المعاملات. امتاز بثقافة موسوعية، لا سيما في العلوم القانونية، ولم يكن فقيهاً ومفكّراً قانونياً حسب، بل كان أقرب إلى مكتبة عامرة حيث اجتمعت في شخصه المعرفة القانونية واللغوية، خصوصاً بالقوانين العصرية وبعلوم الشريعة الإسلامية، والخبرة القضائية، والتجربة الأكاديمية والإدارية.
ولا شك أن تنوّع عمله وتجاربه أكسبه هذه المكانة المتميزة، حيث يعد السنهوري الأب الروحي للقوانين المدنية العربية ولعدد من الدساتير العربية. من هناك اكتسب فكراً وحدوياً عروبياً، وكان قد اقترح قيام "اتحاد عربي"، بل بادر لوضع مشروعه عام 1944 من دمشق، قبل إنشاء جامعة الدول العربية "آذار (مارس) 1945".
وعلى الرغم من اختصاصاته القانونية، فقد درس منذ وقت مبكّر كتب التراث العربي مثل: الأغاني والأمالي والعقد الفريد وأُعجب بشعر المتنبي، وكان شديد الإعجاب بالكواكبي أيضاً.
وبسبب ثقافته القانونية المتنوعة والمتعددة المشارب، امتاز فكره القانوني بالديمقراطية والليبرالية، الأمر الذي أدّى إلى اصطدامه مع الرئيس جمال عبد الناصر عام 1954 حين دعا إلى حلّ مجلس قيادة الثورة وإعادة الجيش إلى ثكناته، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وبسبب ذلك تم عزله، بل وعزلته واتّخذت القيادة المصرية إجراءً يقضي بحل مجلس الدولة الذي كان يرأسه.
كان السنهوري مؤمناً إيماناً شديداً باستقلال القضاء والإعلاء من شأنه ورفع مكانته وميّالاً إلى فكرة العدالة الاجتماعية، وكان مخلصاً في دعم مشروع قانون الإصلاح الزراعي وتوزيع الأرض على الفلاحين. وحاول التوفيق بين مبادئ الشريعة الإسلامية وبين الفكر القانوني (العلماني ـــ الليبرالي)، وذلك في وسطية كان يعتقد أن بإمكانها تطمين طموح ومصالح الطرفين، لا سيما بصياغات تحترم الفكر القانوني من جهة وتسعى لجعله مقبولاً أو غير متعارض مع مبادئ الشريعة من جهة أخرى، على الرغم مما تثيره مثل هذه المصالحات من إشكالات ومشكلات، خصوصاً لدى فريق المفسّرين والمؤّولين، من الذين يذهبون بعيداً بتفسيراتهم للنصوص القانونية حين يحاولون تكييفها على نحو ضيق تجنّباً لبعض الحساسيات، لكن حقيقة المشكلات، بما فيها عملية التوليف برزت في وقت لاحق، ومثل هذه المحاولات وإنْ كانت قد بدأت في منتصف القرن الماضي، إلا أن تأثيراتها ظهرت لاحقاً بصعود تيار إسلاموي "متشدد".
ولد السنهوري في 11 آب (أغسطس) عام 1895 في الإسكندرية وتوفي في 21 تموز (يوليو) عام 1971، وحاز درجة الدكتوراه في القانون المدني من فرنسا عام 1926 وعمل مدّرساً للقانون المدني ثم عميداً لكلية الحقوق عام 1936. وكان عضواً في مجمّع اللغة العربية عام 1946. وشغل منصب وزير المعارف أربع مرات، وأصبح رئيساً لمجلس الدولة من عام 1949 ولغاية عام 1954.
أيّد السنهوري ثورة يوليو المصرية عام 1952 وأسهم في المفاوضات لخلع الملك فاروق مع الجنرالين محمد نجيب ومحمد أنور السادات. ولم تمنعه مواقفه المؤيدة لثورة تموز (يوليو) وللإصلاح الزراعي من استشراف رؤية أخرى بشأن دور الجيش ومسألة قيام الديمقراطية وإلغاء مجلس قيادة الثورة، حيث كان موقفه متميّزاً.
برزت أفكار السنهوري الإصلاحية منذ أن وضع مواد البرنامج لرسالته للدكتوراه وهي بعنوان "القيود التعاقدية على حرية العمل في القضاء الإنجليزي"، كما وضع رسالة أخرى للدكتوراه عن "فقه الخلافة". وبسبب مواقفه تلك فصل من الجامعة عام 1934. وقد ذهب إلى العراق عام 1935 حيث أسهم في تطوير كلية الحقوق العراقية التي تأسست عام 1908 باسم "مدرسة الحقوق"، وأصدر مجلة للقضاء، ووضع مشروع القانون المدني، وعاد إلى العراق مرّة أخرى عام 1943 لاستكمال مشروع القانون المدني، الذي سُنّ عام 1951 ولا يزال نافذاً حتى الآن. وغادر بغداد إلى دمشق ووضع مشروع القانون المدني لسورية أيضاً.
وعلى الرغم من مواقفه المتحفّظة على دور العسكر وميله إلى الشرعية الديمقراطية والدستورية بديلاً عن الشرعية الثورية فقد أسهم في إعداد دستور مصر بعد ثورة تموز (يوليو) 1952 (بعد إلغاء دستور عام 1923). وهو دستور عام 1954. ولكنه اعتزل الحياة العامة منذ ذلك العام حتى وفاته، وذلك بسبب المضايقات التي تعرّض لها، حيث ظلّ على قناعاته، ولم يساوم عليها.
خلال عزلته الإجبارية 1954 ــــ 1970 أنجز عدداً من المؤلفات القانونية المهمة لكل من ليبيا والسودان والكويت والإمارات. ولم يغادر مصر سوى مرة واحدة عام 1960 بدعوة من أمير الكويت، حيث وضع دستوراً لها أهّلها لاحتلال موقعها كعضو في الأمم المتحدة.
ومن أهم أعماله الأخرى:
1- القانون المدني المصري (ومذكرته الإيضاحية وشروحه).
2- القانون المدني العراقي (ومذكرته الإيضاحية).
3- القانون المدني السوري (ومذكرته الإيضاحية) وقانون البيّنات (وقواعد الإثبات الموضوعية والإجرائية).
4- دستور دولة الكويت وقوانينها: التجاري والجنائي وقانون المرافعات والإجراءات الجنائية، وقانون الشركات، وقوانين عقود المقاولة، والوكالة.
5- القانون المدني الليبي ومذكرته الإيضاحية، العام 1953 (أي بعد الاستقلال).
6- دستور جمهورية السودان.
7- دستور دولة الإمارات العربية.
ويحق لنا اعتبار السنهوري المؤسس للفكر القانوني العربي، وكلما جرى حديث عن الدستور أو تعديلات دستورية، أول ما يقفز إلى الذهن للمشتغلين في القانون الدستوري والقانون المدني وغيرهما من حقول القانون ما أنجزه السنهوري من منارات قانونية عالية يظل الباحث والمهتم بالقانون وبالنظام السياسي يتطلّع إليها. ولعل النقد الذي يمكن توجيهه إليه دون المسّ بمقامه الرفيع، لأن الأمر جزء من سياق وتطور تاريخي، هو "ابتكاره" قانون الكفالة للأجانب المقيمين في دول الخليج، وهو قانون يتعارض مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان (ويطلق عليه البعض قانون العبودية)، وقد تخلّت عنه البحرين أخيرا، وقد أثيرت أخيرا نقاشات في العديد من دول الخليج بشأن إلغاء نظام الكفالة والكفيل أو تخفيف القيود التي تفرضها إلى حدود بعيدة.
إن أي نقاش حول الإعلان الدستوري أو الدستور المنشود سواءً في مصر أو في أي بلد عربي آخر، لا سيما بعد التغييرات الأخيرة، لا بدّ له من استحضار واستلهام الخبرة القانونية العميقة للعلاّمة السنهوري.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي