الاعتماد الشخصي
تخيل لو أن نظاما يصدر يجبر فيه كل واحد منا على أن يخضع لعملية تقييم واعتماد شاملة كل ثلاث سنوات، وإلا حرم من راتبه ومن بيته وسيارته!
طوال السنوات الأربع التي خاضت فيها المستشفيات الجامعية في جامعة الملك سعود تجربة الاعتماد المهني الكندي، التي توجت بحصول مستشفييها على الاعتماد النهائي وشهادة الجودة وكذلك التجربة التي خاضتها كلية الطب في الاعتماد الأكاديمي، وأنا يتردد في ذهني هذا السؤال العجيب.
الاعتماد المهني أيا كان أكاديميا أو صحيا أو صناعيا أو إداريا هو ببساطة عملية تقييم شاملة ودقيقة لمؤسسة، ومقارنة أهدافها هيكلها ونشاطها وإنجازاتها بمعايير جودة ترتضيها جهة الاعتماد. فلكل جهة اعتماد معايير للممارسات المعتمدة أو مستويات الأداء المطلوبة، وعادة ما يأتي فريق متخصص للمؤسسة ويقيم أداءها مقارنة بهذه المعايير ويصدر تقريرا مفصلا يبين توافق أداء المؤسسة مع هذه المعايير من عدمه، وبالتالي حصول المؤسسة على الاعتماد أو حاجتها إلى التعديل وإعادة التقييم.
وثقافة الاعتماد المهني ثقافة ثرية جدا كتبت فيها المؤلفات وثبت بعديد من الأبحاث أنها من أفضل وسائل تحسين الجودة وتطوير الأداء، طالما عملت بالطريقة الصحيحة وعدت وسيلة وليس هدفا.
الاعتماد ينظر للمؤسسة ككل من جميع جوانبها وليس فقط فيما يراه الإعلام وما يراه الزبون والمراجع، ينظر إلى هدفها ورؤيتها ورسالتها وهيكلتها وطريقة إدارتها وعلاقتها بالمجتمع، ثم يفصل النظر في الإمكانات المتاحة لها ويقارنها بالنتائج المتحققة، ويدرس بدقة أثر المؤسسة في المجتمع وعلاقتها به. فهل نحن جاهزون كي تتم مراجعة رسالتنا في الحياة وأهدافنا وطريقة استفادتنا من إمكاناتنا وطاقاتنا ومقارنتها بإنجازاتنا ومكتسباتنا؟ هل نحن مستعدون لتقييم شامل لعلاقتنا بالآخرين وتأثيرنا في المجتمع من حولنا؟
الاعتماد يشترط أن تعد دراسة ذاتية عن المؤسسة وتوثق نقاط القوة والضعف من خلال مقارنتها بالمعايير العالمية للجودة وأفضل الممارسات في هذا المجال. هذه الدراسة تستغرق في العادة أكثر من عام ويشترك في إعدادها عدد كبير من المنتمين إلى هذه المؤسسة، فهل أنت على استعداد لأن تكتب عن نفسك دراسة ذاتية تقيم من خلالها الواجبات التي عليك والعادات الجيدة في التفكير والسلوك والصحة العامة والعلاقات الاجتماعية، وتكتب بجوار كل منها نقاط القوة عندك ونقاط الضعف بكل صراحة وتجرد؟
والاعتماد كذلك لا يقبل منا الدعاوى أو تعداد المحاسن، ولكن يشترط أن يكون الشيء مكتوبا وموثقا. كما أنه لا يعتمد فقط على الذي كتبته ووثقته المؤسسة نفسها، بل يبحث عن هذه الحقائق في الواقع بأن يقابل عددا من الموظفين ويتأكد إذا كان ما تذكره المؤسسة في تعاملها مع موظفيها صحيح أم لا، ويقابل العملاء ويتأكد إذا كانت الخدمة المقدمة لهم بالفعل هي كما ذكرت المؤسسة أم لا، ويسأل المجتمع إذا كان أثر هذه المؤسسة كما ادعت أم لا، فهل أنا وأنت مستعدان لمثل هذا؟ هل أنت مستعد لأن تسأل زوجتك عن تعاملك معها؟ وأن يسأل الموظفون معك عن علاقتك بهم؟ وأن يسأل أقاربك عن مدى تواصلك معهم؟ هل أنت مستعد لأن تراجع صلواتك وهل كانت في وقتها مثلا، وأن يقيم عدد الكتب التي قرأتها في الشهر، وأن يفحص مكتبك في تنظيمه وتراجع فواتيرك في التزامك بتسديدها ويراجع انتظامك في مراجعتك لعيادة تنظيف الأسنان سنويا، وعدد حصص الرياضة التي مارستها في الأسبوع؟ وهل أنت مستعد لأن تستمع إلى النقاط التي حصلت عليها في هذه الجوانب وعشرات الجوانب غيرها؟
أخيرا، تقوم فلسفة الاعتماد في الغالب على تقييم من مجموعة من الخبراء الدوليين الذين لا ينتمون إلى المؤسسة نفسها، وكثيرا ما لا ينتمون إلى الثقافة أو البلد نفسه، فهل أنت مستعد لأن تقيم من وفد من الخبراء العالميين في الجودة الشخصية يتكون من خبير ألماني وآخر أمريكي وثالث ياباني ورابع بريطاني؟
ثقافة الاعتماد بحر كبير يمكننا أن نتعلم منها الكثير وتستفيد منها مؤسساتنا بشكل رائع، ولكن لا بد أن يكون ضمن منظومة ثقافية صحيحة قائمة على أن الاعتماد وسيلة من ضمن عدة وسائل تدفع جميعها في سبيل تعزيز الجودة وتحسينها وليس مجرد تمثيلية تتصنع وشهادة تعلق.
أدعو نفسي اليوم وأدعوكم إلى أن يكون لنا برنامج اعتماد شخصي يقيم جميع جوانب حياتنا بشكل مبرمج ودقيق ويقارنها بما نرتضيه لأنفسنا من ثوابت وقواعد وممارسات نتمنى أن نصل إليها. وحتى لا نحرج أحدا سوف نعفيكم من أن يكون الوفد خارجيا، لنبدأ بأن نقيم أنفسنا بأنفسنا. وإلى الذين لا يتقبلون فكرة الاعتماد والمحاسبة تذكروا أنها قادمة في يوم ينكشف فيه كل شيء ويقاس فيه كل شيء حتى مثقال الذرة، ذكرنا بها عمر ـــ رضي الله عنه ـــ "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا". إنها دعوة إذن إلى أن ننشئ الهيئة الفردية للتقويم الشخصي والاعتماد الحياتي!