سنوات صعبة
يشهد عالمنا وهو يلج العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين إحدى مراحل التحول الفاصلة في التاريخ على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، مرحلة تفصل حقبة حاضرة أخذت تتشكل بسمات جديدة مغايرة لما قبلها. والأمم الحية ترقب هذه التغيرات وترصدها رصدا دقيقا لفهم اتجاهاتها واستيعاب مآلاتها من أجل حماية مصالحها العليا وضمان استقرار مجتمعاتها على المدى البعيد. أما المجتمعات المتبلدة فلن ترى في هذه التطورات ما يثير فيها الهمة والعزيمة الكافية لتأمل ما يجري حولها وتبني استراتيجيات ثاقبة.
إن كثيرا مما يجري في عالمنا من اضطرابات سببه الظلم! إنه التعدي الجائر على حقوق الآخرين أو منعهم من الوصول إلى حقوقهم. وقد حرمه الحق ــ سبحانه وتعالى ـــ على نفسه وجعله محرما بين عباده، وأقام برحمته ـــ عز وجل ـــ السموات والأرض على العدل. ولذا فإنه ـــ تعالى ـــ يقيم ــ كما قال ابن تيمية ـــ الدولة الكافرة بالعدل، ويزيل الدولة المسلمة بالظلم. إنها نواميس الله في الكون، وهي نواميس تفني من يصادمها لا محالة.
المستبدون يوردون مجتمعاتهم موارد مهلكة فيجعلونها تدفع ثمنا فادحا من أمنها واستقرارها ورخائها. وسيقتضى الأمر سنوات حتى تستعيد هذه المجتمعات استقرارها وتعود للانطلاق من جديد. والناظر في الخسائر الاقتصادية الجسيمة التي منى بها الاقتصاد المصري من جراء تعطل الاقتصاد خلال فترة المظاهرات الشعبية يلمس فداحة الثمن الذي تدفعه الشعوب.
فقد تعرض الاقتصاد المصري لشلل شبه كامل، حيث تأثرت القطاعات الصناعية والزراعية، وتوقف قطاع السياحة، وتعطل تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وأصبح تصنيف خطر الاقتصاد المصري أعلى من مستوى تصنيف الاقتصاد العراقي. وطارت مليارات الأموال للخارج، كما انهارت الصادرات بنحو 60 في المائة، ومن ثم تدهور احتياطي البلاد من العملة الأجنبية.
ولا يتوقع المتفائلون عودة السياحة قبل عام من الآن، أما الاستثمارات الأجنبية المباشرة فلا يتوقعون عودتها قبل سنتين من اليوم. وهذا يعني خسارة إجمالية تقدر بنحو 33 مليار دولار، بحسب تقديرات أطلعني عليها صديق يعمل في القطاع المصرفي المصري. وأضاف أن خسائر الفساد كانت تقدر بنحو ستة مليارات دولار سنويا، وأنها يمكن أن تنخفض إلى ثلاثة مليار دولار في ظل حكومات مدنية منتخبة تتمتع بأقصى درجات الشفافية والنزاهة. وهذا يعني أن الاقتصاد المصري لن يعوض خسائره جراء تعطل الاقتصاد قبل 11 سنة من الآن، وبشرط أن تنجح الحكومات القادمة في استعادة الاستقرار والقضاء على الفساد وثبيت أركان العدالة.
لا شك أن استعادة الكرامة والحريات أمر لا يقدر بثمن، وأن الثورة كانت حتمية في ظل أوضاع فاسدة ومظالم واسعة عاناها الشعب المصري ثلاثة عقود. بيد أن ما يثير قلق محبي مصر أن تتأخر في استعادة أمنها واستقرارها، ويتخوفون أكثر من أن تتمكن جهات أجنبية من استغلال حالة عدم الاستقرار في تغذية الاحتقان والتوتر الطائفي، وهو عمل سهل إن لم يتيقظ المجتمع المصري بكل أطيافه لما يمكن أن يحاك له. ويخشى آخرون من احتمال تدمير سمعة ودور قطاع الأعمال في الحياة الاقتصادية، حيث يُصوَر التجار ورجال الأعمال ـــ دون تمييز وعلى غير وجه حق ـــ بأنهم مجموعة من الفاسدين الذين تجب معاقبتهم لمجرد أنهم ناجحون ويحققون أرباحا. وبذلك يخسر المجتمع رؤوس أموال وطنية فتتعمق جراح الاقتصاد المصري أو يتأخر تعافيه.
إننى أخشى على مصرنا الحبيبة أن يجري على اقتصادها ما جرى له في بداية سنوات ثورة عام 1952هـ، عندما دفع الشك القاتل بعض ضباط الثورة لرفض كل مشروع صالح ومفيد تقدم به رجال أعمال عصاميون وشرفاء. مثل مشروع إقامة ضواح جديدة حول القاهرة الذي تقدم به محمد أحمد فرغلي باشا للرئيس عبد الناصر. وكان فرغلى هذا عصاميا وأول رجل أعمال مصري يقتحم عالم تجارة القطن عبر البورصة الذي كان مقتصرا على الأجانب. ووضع فرغلى باشا في هذا المشروع عصارة خبراته وكل ثقله ووظف سمعته النظيفة حتى نجح في إقناع رجال أعمال دوليين بالمشاركة في تمويله، الذين استجابوا ثقة فيه لا في الوضع الجديد، ومع ذلك لم ير مشروعه النور وقتل في مهده. ويروي الرجل الذي صادروا أملاكه كلها باسم قوانين الحراسات المقيتة، يروى في كتابه ''عشت حياتي بين هؤلاء'' الذي صدر في القاهرة في عام 1984م، أن الرئيس عبد الناصر الذي كان من الصعب أن يثق بأحد، قد وثق به نسبيا واستثناه وحده دون غيره من بعض القيود الاجتماعية فسمح له بالسفر وارتياد النوادي، إلا أن السياسات العامة كانت طاردة للاستثمارات الوطنية والأجنبية، فخسرت مصر لسنوات رافدا من روافد الاستثمار. أما اليوم، فإني أعتقد أن مصر ينتظرها مستقبل واعد من الناحية السياسية، وسنوات صعبة من الناحية الاقتصادية.
لكل هذه التداعيات التي يخلفها الاستبداد والظلم، كان الإمام (الحاكم) العادل هو ممن يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، لأن صلاحه صلاح للأمة وفساده فساد لها. منطقتنا تمر بمرحلة دقيقة نبتهل إلي المولى ــ تعالى ـــ أن نتجاوزها بسلام!