ثورة ليبيا وملك ملوك إفريقيا
في 17/2/2011، انفجرت ثورة شعب ليبيا ضد حكم العقيد معمر القذافي، الذي أرهق لمدة 42 عاما البلاد والعباد عسفا وطغيانا وفسادا وتبديدا لثروات البلاد في مشروعات قليلة النفع أو غير ذات جدوى ومؤامرات وأعمال إرهابية واغتيالات ومغامرات خارجية، فحرم الشعب من أن يستفيد من عوائد ثرواته النفطية.
واجه القذافي الثورة الشعبية السلمية بالحديد والنار على نحو يذكرنا بالأساليب الوحشية الإسرائيلية في قمع انتفاضات الشعب الفلسطيني، فالقذافي لم يتورع عن استخدام الطائرات والأسلحة الثقيلة ضد شعبه الأعزل الثائر فسقط آلاف الشهداء والجرحى، وأخذت الطاغية العزة بالإثم والعدوان فتوعد الشعب بالويل والثبور وعظائم الأمور ووصف الثوار بالجرذان والجراثيم وأنهم يتعاطون حبوب الهلوسة، التي اعتبرها سبب خروجهم عن طاعته، كذلك فعل نجله المدعو سيف الإسلام، الذي ليس له صفة رسمية سوى أنه ابن الطاغية، فتجرأ وخاطب الشعب من خلال التلفاز مهددا الشعب بأشد العقاب وإشعال حرب أهلية ضارية لا تبقي ولا تذر. وبعد ذلك قال سيف الإسلام القذافي في تصريح لجريدة ''الشرق الأوسط'' منشور بتاريخ 3/3/2011، إنه ''عندما يدوس الناس الخطوط الحمراء فأنا أضربهم بالجزمة، وأضرب أباهم كمان بالجزمة''. وعندما قرأت هذا القول وجدت نفسي أقول ''وإني أظنك يا ابن معمر القذافي مثبورا''. ولم تزد أقوال وأفعال الطاغية وزمرته الباغية الشعب إلا إصرارا وتصميما على إسقاط القذافي ونظامه البغيض، واستطاع الثوار تحرير معظم المنطقة الشرقية من حكم الطاغية وهم بصدد تحرير سائر مناطق البلاد، وأنهم بإذن الله هم الغالبون.
ولم يجد القذافي مبررا لوحشيته المفرطة في قمع المدنيين العزل سوى الاستناد إلى سوابق إجرامية مثل قصف الطائرات الأمريكية مدينة الفلوجة العراقية وقصف الطائرات الإسرائيلية قطاع غزة وقتل المدنيين العزل، أي أن الجريمة - في رأيه - تبرر الجريمة، وهذا دائما هو منطق المجرمين السفاحين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
لقد تصدع نظام القذافي، إذ استقال عدد غير قليل من المسؤولين والسفراء والدبلوماسيين الليبيين احتجاجا على استخدام العنف المفرط ضد الشعب الثائر. وانضم بعض الضباط والجنود إلى الثوار، وتم تكوين مجلس وطني انتقالي في بنغازي برئاسة وزير العدل السابق مصطفى عبد الجليل، الذي أعلن أن هذا المجلس هو الممثل الوحيد والشامل لكامل مناطق البلاد، وأن هذا المجلس يستمد شرعيته من مجالس الشباب الثوري في جميع المدن المحررة، حتى الأخرى التي ستحرر لاحقا، وأن المجلس فوض كل سفراء ليبيا الذين استقالوا وممثليها في الأمم المتحدة والجامعة العربية لتمثيل المجلس الانتقالي في الخارج.
ودفع جنون العظمة بالقذافي إلى الهذيان قائلا إنه هو (المجد) للعرب والمسلمين وأمريكا اللاتينية وآسيا والعالم كله، ولن يتخلى العالم عنه، كبرت كلمة تخرج من فمه إن يقول إلا كذبا. ثم ادعى أن الشعب كله يحبه ومستعد للموت من أجله.. فيا له من مغرور أثيم!
ولعمر الحق لو تنحى القذافي عن الحكم أو هلك فلن يبكي عليه الشعب ولا السماء والأرض؛ لأنه طاغية من المسرفين.
لقد بلغ السيل الزبى، فاضطر مجلس جامعة الدول العربية إلى وقف مشاركة الوفود الليبية في اجتماعات المجلس وغيره من المؤسسات والهيئات التابعة للجامعة؛ حتى يستجيب النظام في ليبيا لمطالب الشعب المشروعة.
من ناحية أخرى، يمكن القول إن ما يحدث في ليبيا لم يعد شأنا داخليا ليس من حق المجتمع الدولي التدخل فيه لأن حقوق الإنسان أصبحت بموجب المواثيق الدولية شأنا دوليا، وأي انتهاك جسيم لهذه الحقوق يستوجب التدخل الدولي الإنساني، وليس بالضرورة أن يكون هذا التدخل عسكريا، فقد يكون في شكل فرض عقوبات على الدولة التي انتهكت حقوق الإنسان كالحصار الاقتصادي والحظر الجوي والبحري والبري، وفرض جزاءات على المسؤولين في الدولة عن إصدار وتنفيذ الأوامر المنطوية على الانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان. وإذا تفاقم الوضع المأساوي للسكان فقد يضطر المجتمع الدولي إلى التدخل العسكري لإنهاء المأساة الإنسانية، وتوجد سوابق عديدة للتدخل العسكري الإنساني يضيق المجال هنا عن ذكرها ومناقشة أسانيدها القانونية، ونكتفي بالإشارة إلى التدخل العسكري لحلف (الناتو) لإنهاء مأساة كوسوفو عام 1999.
فلا جرم أن يهتم مجلس الأمن بالأوضاع الإنسانية في ليبيا ويصدر بتاريخ 27/2/2011م قراره رقم 1970، الذي يدعو إلى الوقف النهائي لأعمال العنف واتخاذ تدابير للاستجابة للتطلعات المشروعة للشعب الليبي واعتبار الهجمات الواسعة والممنهجة التي حصلت في ليبيا ضد المدنيين يمكن أن ترقى إلى تصنيف الجرائم ضد الإنسانية وإحالة الوضع في ليبيا منذ 15 شباط (فبراير)2011 إلى المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية وحظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، ومنع عبور أو دخول القذافي وبعض أفراد اسرته ومعاونيه إلى أراضي الدول الأعضاء، والتجميد الفوري لجميع الأصول والموجودات المالية الأخرى والموارد الاقتصادية الموجودة على أراضيها والمملوكة أو المدارة مباشرة أو غير مباشرة من جانب هؤلاء الأشخاص، كما قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة وقف عضوية ليبيا في مجلس حقوق الإنسان.
إن التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا غير مرحب به من قبل قادة الثوار حتى كتابة هذه السطور، كما أن الجامعة العربية رفضت أي تدخل أجنبي، كما أن بعض المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين أبدوا عدم تحبيذهم التدخل العسكري في ليبيا؛ لأن صعوبات ومخاطر عديدة تكتنفه، بيد أن تصاعد العنف وتدهور الأوضاع الإنسانية أدى إلى أن تصدر دول مجلس التعاون الخليجي بيانا طالبت فيه مجلس الأمن باتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية المدنيين في ليبيا، بما في ذلك الحظر الجوي ودعت السلطات الليبية إلى الوقف الفوري لاستخدام القوة ضد المدنيين والعمل على حقن الدماء وتحقيق تطلعات الشعب الليبي، كما دعت إلى اجتماع طارئ لمجلس الجامعة العربية لبحث الوضع في ليبيا. وصرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن حلف (الناتو) يبحث خيارات عسكرية، كما بدأ الحلف في مراقبة جوية لليبيا على مدار الأربع والعشرين ساعة بطائرات الاستطلاع (أواكس)، وصرح وزير الخارجية البريطاني وليام هيج بأن بلاده وبعض الدول الأخرى تعمل بشكل عاجل بشأن استصدار قرار من مجلس الأمن بفرض حظرا جويا فوق ليبيا، وترتيبا على ذلك وإزاء استمرار القذافي في غيه، فإنه من غير المستبعد أن يتخذ مجلس الأمن إجراءات أشد صرامة، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لوقف سيلان الدم في ليبيا.
وقبل الختام أشير إلى مسألتين، الأولى أن الأحداث الجارية في ليبيا كشفت عن انعدام ثقة القذافي في الجيش الليبي فأضعف شأنه واعتمد في حماية نظامه على كتائب أمنية مدربة على أعمال القمع ومدعومة بمرتزقة أجانب، ينتمي أغلبيتهم إلى دول إفريقية.
إن مبادئ وقواعد القانون الدولي العام تجرّم أعمال الارتزاق والاستعانة بالمرتزقة في أي نزاع، سواء كان دوليا أو محليا. وأشير في هذا الصدد إلى ثلاث وثائق دولية، الأولى اتفاقية مكافحة المرتزقة التي أقرها مؤتمر رؤساء دول منظمة الوحدة الإفريقية في دورته العادية الرابعة عشرة التي انعقدت في الجابون في الفترة من 2 إلى 5 حزيران (يونيو) 1977، والوثيقة الثانية اتفاقية الأمم المتحدة ضد تجنيد واستخدام وتمويل وتدريب المرتزقة الموقعة في 4/12/1989م. والوثيقة الثالثة البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف المبرمة عام 1949، حيث تم اعتماد هذا البروتوكول في مؤتمر جنيف الدبلوماسي بشأن القانون الدولي الإنساني في دورته الثانية عام 1976.
وجدير بالذكر أن ليبيا صادقت على الاتفاقية الإفريقية عام 2005، أي أنها ملزمة قانونا بعدم استخدام المرتزقة، إلا أن معمر القذافي في سبيل البقاء في الحكم رغما عن إرادة الشعب، لم يتورع عن جلب واستخدام المرتزقة، ولا بد أن يتحرك الاتحاد الإفريقي، الذي حل محل منظمة الوحدة الإفريقية، ويتخذ الإجراء الذي يفرض احترام الاتفاقية الإفريقية الخاصة بمكافحة المرتزقة.
إن جريمة القذافي في جلب واستخدام المرتزقة لقمع ثورة الشعب وإرهابه ينبغي أن تكون ضمن الأفعال الإجرامية التي ينبغي أن يثيرها المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية التي أحال إليها مجلس الأمن ملف الوضع في ليبيا.
والمسألة الثانية، أن معمر القذافي يزعم أنه منذ عام 1977 سلم السلطة للشعب بواسطة اللجان الشعبية، وأنه ليس رئيسا أو ملكا حتى يستقيل، وأنه لا يتحمل أي مسؤولية، وأنه فقط قائد ثورة ومجرد (مرجعية) للجان الشعبية من دون أي سلطات. وهذه ادعاءات تثير السخرية، فإذا كان لا يعد نفسه رئيسا للدولة الليبية فعلى أي أساس يمثل ليبيا في مؤتمرات القمة العربية والإفريقية وغيرها من المؤتمرات الدولية ويتحدث باسم ليبيا أمام هذه المؤتمرات؟! وعلى أي أساس يستقبل الوفود الأجنبية ويجرى مباحثات معها؟! وعلى أي أساس يصدر الأوامر للمسؤولين المدنيين والعسكريين؟! وعلى أي أساس يلزم الدولة بانتهاج السياسة الداخلية والخارجية التي يحددها مزاجه؟! واذا لم يكن رئيسا أو حاكما فلماذا يفتخر بأنه (عميد) الحكام العرب الحاليين؛ لأنه أقدمهم في السلطة؟!
ومن العجيب أن يشبه القذافي وضعه بوضع ملكة بريطانيا، ونسي أن ملكة بريطانيا، وبغض النظر عن نطاق سلطاتها، تعتبر رأس الدولة في بلادها. وأن الفارق بينه وبينها أن ملكة بريطانيا تملك سلطات محدودة بينما سلطاته ليس لها حد، وأن ملكة بريطانيا وأسرتها تخضع للقانون وأنه يعتبر نفسه وأفراد عائلته فوق القانون. ومن ناحية أخرى، فإن زعمه أنه مجرد (مرجعية) لسلطات الدولة الممثلة في اللجان الشعبية التي أنشاها، يعني أنه مرجع جميع هذه السلطات، وبالتالي فهو رئيس الدولة ولو أنكر ذلك. القذافي يجهل أو يتجاهل أنه وفقا للقانون الدستوري والقانون الدولي ينبغي أن يكون لكل دولة رئيس يقودها ويملك حق التعبير عن إرادتها، بصرف النظر عن لقبه أو اسم مركزه، فقد يكون إمبراطورا أو ملكا أو أميرا أو رئيس جمهورية أو رئيس مجلس رئاسة أو رئيس مجلس قيادة ثورة أو غير ذلك من الأسماء، فالعبرة في هذا الشأن ليست بالاسم، إنما بمن يملك سلطة قيادة الدولة وتمثيلها في علاقاتها الخارجية. ولذلك فإن محاولة القذافي التنصل من مسؤولية ما يجري في بلاده وأنه لا يمكن أن يستقيل لأنه ليس رئيس دولة، أمر مرفوض ويأباه المنطق السليم، ومما يدعو إلى السخرية أيضا أن القذافي الذي أطاح بالنظام الملكي في بلاده عام 1969، يفتخر بأنه ملك ملوك إفريقيا، وهو لقب اشتراه بالمال من بعض شيوخ قبائل إفريقية، يطلق كل واحد منهم على نفسه لقب (ملك) القبيلة التي يرأسها.
يبدو أن القذافي صدق أكذوبة كونه ملك ملوك إفريقيا، فاعتبر نفسه أكبر من أن يكون حاكما وأعظم من أن يكون رئيس دولة، ولم يبق إلا أن يقول لشعبه صراحة ما قاله فرعون مصر قديما (أنا ربكم الأعلى) فأخذه الله نكال الآخرة والأولى.
ألا بعدا للقذافي كما بعد من قبل كل طاغية أثيم.