النموذجان الليبي واليمني .. الطريق للحرب الأهلية أو التدخل الخارجي
من يضع البيض في سلة واحدة عليه ألا يصرخ داعيا النجدة حال سرقة هذا البيض أو الاعتداء عليه, ومن يتوقع أن التذاكي السياسي وإدارة الأمور عبر التلاعب باللعبة السياسية شدا وجذبا, عليه أن يقتنع بأن قانون اللعبة يحتوي على بند صغير وهو احتمالية انقلابها وتغيرها يوما ما, ومن يتوقع أن بإمكانه العبث بأمن الآخرين فإن عليه أن يتوقع أن يتم العبث بأمنه أيضا, ومن كان بيته من زجاج فعليه ألا يرمي بيوت الناس بالحجارة, وأن على الدول ألا تنتظر أن تبلغ القلوب الحناجر, إنما عليها أن تدرس طبيعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية وتقدم على صيانة علاقاتها ومجتمعاتها بعقد اجتماعي جديد, فمن كان يتوقع توحد الحراك الجنوبي والحوثيين وتنظيم القاعدة, وبعض مؤسسات المجتمع المدني وأن تكون في حظيرة واحدة بالضد من الرئيس اليمني علي عبد الله صالح؟ ومن كان يتوقع أن يسقط فرد رئيس دولة مثلما فعل البوعزيزي في تونس؟
امتاز الرئيس علي عبد الله صالح بالحنكة والدهاء السياسي وبقدرته الفائقة على إدارة اللعبة الداخلية والتلاعب بالتوازنات الإقليمية والدولية وتوظيفها لخدمته, طوال سنوات حكمه كأطول فترة حكم لرئيس جمهورية يمني, ورغم معرفته بحدود ومنطق المعادلات والتوازنات القائمة, إلا أن صالحا لم يكن في وارد تفكيره أن يتعامل بذكاء أيضا ومعادلة مهمة لم يمنحها كثيرا من الاعتبار, وهي معادلة الوقت والتراكمات التي تغير الأفكار والنفسيات والمواقف, معادلة فقدان الشعبية, مقابل مضاعفة الفساد المالي والإداري وحدته, معادلة تغير التحالفات بتغير الظروف.
استطاع صالح أن يضمن القوة الرئيسة الثانية في اليمن, وهي الجيش, لكنه لم يسلم من المتقاعدين الذين احتجوا مرارا على السياسات الحكومية, وبرع صالح في التعامل مع القوة الرئيسة الأولى, وهي القبائل, لكنه في ظل حالة التعددية والديمقراطية المطروحة, كان عليه أن يدفع ثمن ولاء هذه القوة وعدم خروج بعضها عليها, فمنحت بعض القبائل الرئيسة دورا مهما في الحكم اليمني, لكن هذه القوة كانت صامتة لفترة طويلة, صامتة وتراقب ما يجري من كثب, مع اختلافات هنا وهناك استطاع لملمتها, غير أن توسع دائرة النفوذ الحزبي والمدني وتزايد الاحتجاجات, جعل الرئيس اليمني يوسع دوائر التحالف التقليدية فتحالف مع الحوثيين ومنحهم مناصب ومكاسب كبيرة وجعلهم قوة لا يستهان بها, ولهذا السبب تغاضى الرئيس عن علاقة الحوثيين بطهران وبالسفارة الإيرانية, فحكم التوازنات الداخلية يتطلب تقديم التنازلات وأيضا التعاون وقوى خارجية, إقليمية وعالمية, وإشراكها فيما يجري في اليمن فدخلت إيران والدوحة وأمريكا على خطوط السلطة اليمنية, فإذا لم يستطع صالح ضبط التوازنات والمعادلات الداخلية استدعى التوازنات الخارجية للتدخل, وإن اشتد عليه الأمر اتهم الداخل بالاستخدام الخارجي واتهم الخارج بالتدخل في الشؤون الداخلية, فقد قال أخيرا إن الاحتجاجات تدار من تل أبيب ومكتب في البيت الأبيض وعاد وقدم الاعتذار لأمريكا, فالسياسة تقبل التقدم وتقبل التراجع أيضا وكل شيء له ثمنه.
في فترة السنوات الخمس الأخيرة أصبحت الحدود اليمنية مفتوحة, مفتوحة أمام تهريب السلاح والحشيش وأعضاء الحركات الراديكالية, وأيضا للأحزاب وأجهزة الاستخبارات الإقليمية والعالمية, وضاعف ذلك أن اليمن وقع وإيران بداية التسعينيات اتفاقيات أمنية عديدة من بينها حق الحرس الثوري الإيراني والبحرية الإيرانية التابعة له بالرسو في الموانئ اليمنية, وفي هذه الفترة بالذات نشطت الاستخبارات الإيرانية في باب المندب والقرن الإفريقي والبحر الأحمر, وكشفت تقارير الاستخبارات الأوروبية عن وجود للحرس الثوري الإيراني في إرتيريا, وأن عمليات تهريب السلاح والدولارات تتم عبر ميناء عصب إلى صعدة, وكشف النقاب عن وجود قياديين لحزب الله في صعدة وبعض اتباع مقتدى الصدر من العراقيين, ناهيك عن الاحتجاجات الرسمية اليمنية المطالبة بضرورة تراجع المرجع السيستاني عن دعوته لمنح الخمس للحوثيين وبخاصة الخمس العائد لمواطنين خليجيين, واحتجاجات الخارجية اليمنية لوزير الخارجية الإيراني الأسبق منوشهر متقي بضرورة عدم العبث الأمني والتمويل والتسليح للحوثيين!!
ولهذا السبب كانت اليمن تواجه تحديا مركبا بسبب الأوضاع الداخلية, فالدولة تفقد سلطتها لمصلحة قوى مختلفة في توجهاتها وأفكارها, هناك اختلاف خارج الأطر الرسمية والقانونية والدستورية, ويرى البعض أن فتح أبواب اليمن لصراع متداخل داخلي وخارجي كان جزءا من المنطق السياسي للرئيس اليمني لإدارة وإحكام التوازنات الداخلية, لكن ــ كما يقال وكما أسلفنا في البداية ــ إن انقلاب المعادلات متوقع وممكن, فعندما اشتد ساعد الحوثيين اصطرعوا مع السلطة وأعلنوا اختلافهم مع شرعيتها وتوجهاتها السياسية ورفعوا السلاح في وجهها, وبعد الوحدة اعتقد الرئيس أن الحراك الجنوبي انتهى إلى غير رجعة وليس له قوة أمام قوة الوحدة التي تراجعت أهميتها مع الوقت ليقوى الحراك الجنوبي ويستعيد وجوده, في ظل انتشار حالة الفساد الكبيرة في اليمن, وفي ظل التنازعات الداخلية وضعف الرؤية السياسية لمستقبل دولة الوحدة اليمنية, وفي ظل دعوات التوريث السياسي, وفي ظل انكشاف اللعبة ووصولها إلى قمتها, وحدت المصائب القوى اليمنية المبعثرة, توحدت نحو هدف رئيس واحدة وهو تنحي الرئيس, خاصة بعد شكاوى عدة من عدم نزاهة الانتخابات الرئاسية, فالتقت الخصوم والمتنافرات لمواجهة السلطة السياسية في صنعاء.
ولأن تنظيم القاعدة موجود في إيران وقسما منه يعمل بالتنسيق معها بالضد طبعا من مصالح الولايات المتحدة وبالضد من دول مجلس التعاون الخليجي, كانت السياسة الإيرانية تؤمن ولديها عقيدة سياسية تهدف إلى خلق جيوب دينية في المنطقة على غرار حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين, وكانت تتطلع إلى خلق جيب الحوثيين في صعدة, وبالطبع يكون ملاذا آمنا لتنظيم القاعدة للانطلاق إلى دول الخليج وتهديد أمن السعودية واستقرارها ومحاولة اغتيال شخصيات وقيادات أمنية فيها, وشد أحد أطرافها وجعلها أسيرة لهذه الفوضى.
ونشير هنا إلى الدراسة التي أصدرها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في حزيران (يونيو) 2010, التي كانت تحت عنوان "تأثير الوجود العسكري والأمني الإيراني في الأمن القومي الإسرائيلي", يقول فيها الجنرال يعقوب عميدور "إن تنامي علاقات التعاون العسكري بين إريتريا وإيران ومنح قطع الأسطول الإيراني تسهيلات في ميناءي مصوع وعصب ونصب صواريخ بحرية قادرة على تهديد الأسطول التجاري والحربي الإسرائيلي والأساطيل الغربية, يفرض تحديا كبيرا على إسرائيل, لأن هذا الوجود هدفه في الأساس مواجهة الوجود البحري العسكري الإسرائيلي, الذي يحشد في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي لمواجهة احتمال توجيه ضربة عسكرية جوية وبحرية ضد إيران عن طريق خلق وجود مضاد أو تحد مضاد", هنا سعت تل أبيب إلى أن تتدخل في الموضوع اليمني من باب أن تداعيات الوضع اليمني تؤثر في إسرائيل, وأكدت تل أبيب أن بواعث تدخلها سببه عمليات تهريب السلاح الإيراني إلى دول إفريقية وإلى مصر وحماس والاتصال بالجماعات المقاتلة في ليبيا والجزائر والمغرب.
هنا ندرك أن ثمة صراعا خفيا يجري في إفريقيا, وثمة مخاوف مما يجري في ليبيا اليوم, فطهران تدعم الجماعات المقاتلة بالمال والسلاح والمقاتلين ولها والقذافي ثارات قديمة, فهي تطالب المجتمع الدولي بعدم التدخل العسكري في ليبيا, وتطرح إيران في هذا التوقيت سيناريو وتعمل للترويج السياسي له يفيد بأن انهيار النظام المصري والليبي والتونسي والمتغيرات المتوقعة في الجزائر ستسمح بوجود قوة إسلامية في هذه المنطقة, وأنه لا مانع من طرح مشروع التحالف الإسلامي بقيادة إيرانية, وهو ما دعا الإخوان المسلمين في مصر لرفضه وإعلان عدم قبوله, لأنه يثير مخاوف المصريين ويسهم ويساعد على مصادرة ثورتهم, لأن ذلك سيدفع واشنطن وتل أبيب للسعي بكل قوة لفرض معادلات سياسية تحول دون قيام مثل هذا التحالف, ومن المخاوف المصرية أن يتم فرض معادلة سياسية قريبة من طبيعة النظام السابق, ولهذا لم نستغرب أن تصدر بيانات عن الرئيس الإيراني تدعو الشعوب العربية إلى الثورة ومطالبة الحكومات بعدم الوقوف ضدها!! لأن إيران عملت المستحيل لتغيير نظام مبارك وستعمل المستحيل أيضا لقطف ثمار التغييرات لمصلحتها.
علي صالح والخيارات المتاحة
ما الخيارات المتاحة اليوم أمام الرئيس اليمني بعد انفضاض أقطاب المعادلات الحاكمة للسلطة في اليمن؟ ولأن الظروف تتسم خطاها بالسرعة والاستعجال, ونتائجها كانت غير متوقعة, فقد أعلن الرئيس أنه لن يترشح لفترة رئاسية قادمة ولن يعود مجددا لتصفير العداد لقطع الطريق على المعارضين للتوريث, وأعلن أيضا أنه غير ساع إلى التوريث في محاولة لتهدئة الشارع اليمني, واستعصم الرئيس صالح بالدستور وإمكانية تعديله وبصندوق الانتخاب, وذلك عندما أكد أن مطالب المحتجين مشروعة وأن عليهم اللجوء إلى الأدوات والآليات المشروعة لإخراجه من السلطة, وعن طريق صندوق الاقتراع وأنه, أي الرئيس صالح, لن يتنحى بالمظاهرات والاحتجاجات, ونظرا لمضاعفة حركة الاحتجاج لم يمانع صالح من الحوار وتشكيل حكومة وحدة وطنية, غير أن المعارضة وجدت أن معادلات القوة والتوازن قد تغيرت لمصلحتها, وأنها ستفرض خياراتها على الرئيس اليمني, واقترحت خريطة طريق محددة تكون نتيجتها تنحي الرئيس بكامل الاحترام ضمن عملية انتقال سلمية للسلطة, وضاعف من حدود الأزمة أن العديد من القبائل أعلنت على الملأ تخليها عن الرئيس وتغيير خريطة تحالفاتها.
وهنا نلاحظ التحالفات الهشة وغير المبنية على الثقة التاريخية تعرضت للتهميش, خاصة أن مراوغة الرئيس اليمني كانت من بين الأسباب الرئيسة أيضا وراء حالة المراوغة التي طبعت سلوك بعض القوى اليمنية في الفترة الأخيرة, وهنا تحالف الحراك الجنوبي المطالب بعودة التشطير وتقرير المصير, وحركة الحوثيين ذات التوجه المذهبي الشيعي وذات البنية العسكرية, والمعارضة السلفية التقليدية المنادية بدولة إسلامية أيضا, والتنظيمات العلمانية والقومية المطالبة بنظام ديمقراطي برلماني, وبعض القبائل وأحزاب المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني, وهي مؤسسات تتلقى تمويلات من جهتين غربية وإيرانية أيضا, وجميع هذه القوى يرى أن إسقاط نظام الرئيس علي صالح سيحقق جزءا كبيرا من أهدافها ومطالبها.
أمام ضعف سلطة الرئيس علي صالح وأمام قوة الحراك الشعبي, فإن اليمن يتجه إلى نفق مظلم لعدة أسباب رئيسة, ولعل من بين هذه الأسباب أن الولايات المتحدة لن تسمح بالفوضى والحرب الأهلية على مقربة من مضيق باب المندب وبالقرب من مصادر الطاقة العالمية, وأيضا لن تسمح بوجود سلطة دينية متطرفة قريبة من إيران, وكذلك فإن إسرائيل ترى أن وجود سلطة قريبة من إيران له تأثيره الكبيرة في أمنها واستقرارها, خاصة بعد التغيير في مصر وتوجهاته الإسلامية المتوقعة, والانهيار الليبي وتوجهاته الإسلامية المتطرفة المدعومة سرا من إيران, وهذا من الناحية الجيوستراتيجية سيؤثر في المدى الطويل في استراتيجية الصراع والسلام في المنطقة, كما أن الغرب والعرب عموما يتخوفون من تعاظم النفوذ الإيراني في المنطقة, خاصة أن إيران تستعجل الانهيارات العربية وتتمنى استمراريتها كونها ستؤدي إلى غض الطرف عما يجري داخلها أيضا من احتجاجات. وليمنحها الفرصة لاستكمال مشروعها النووي.
الحرب الأهلية والتدخل العسكري
بالطبع التغيرات في المنطقة كانت مفاجئة, لكن واشنطن تعمل بقوة على توجيه مساراتها وضبط تحركها ما أمكن, ولا مانع لديها أيضا من التدخل العسكري إن رأت أن هذه التغيرات ستخل بمنطق المعادلات الاستراتيجية في المنطقة, وضمن هذه الرؤية فقد استمع الكونجرس الأمريكي وتحديداً لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي في يوم 20 كانون الثاني (يناير) الماضي إلى إفادات الخبير فريدريك كانمان أحد أبرز رموز جماعة المحافظين الجدد واللوبي الإسرائيلي, إضافة إلى أنه مسؤول جماعة المحافظين الجدد وجماعات اللوبي الإسرائيلي عن ملف الصراع العراقي وملف الصراع الأفغاني وملف الصراع الباكستاني, إضافة إلى ملف الصراع اليمني وملف الصراع الصومالي.
وكانت طروحات كانمان, وهي تصورات لخبير استراتيجي وأمني, وهي ملخص لمناقشات ومعلومات مشتركة والمخابرات الأمريكية وقد دعا إلى الآتي:
ــ دعم الرئيس اليمني علي عبد الله صالح, وتقديم الدعم اللازم لتحقيق تسوية مصالحات بين الرئيس صالح وحركة الحوثيين المسلحة والحراك الجنوبي الانفصالي.
- دعم جهود الرئيس اليمني للقضاء على العناصر الإسلامية المتطرفة, وتحديدا جماعة تنظيم القاعدة, وتطهير الجيش والشرطة والأمن من العناصر المخترقة.
- تعزيز الدعم المالي والتدريبي والعسكري لقوات الجيش والشرطة والأمن اليمنية وتخصيص وقت وجهد كافيين لمحاصرة تنظيم القاعدة.
- دعم الاقتصاد اليمني, خاصة النقص الحاد في الوقود ومياه الشرب والسلع التموينية والمشاريع التنموية.
- دعم التوجهات الإصلاحية السياسية وهيكلة الدولة اليمنية بما يؤدي إلى ترتيب الأوضاع الداخلية بما يعزز الأمن والاستقرار الداخلي وإنهاء الخلافات والصراعات.
- دعوة مجلس دول التعاون الخليجي لدعم اليمن اقتصاديا وسياسيا والتمهيد لإدماج اليمن ضمن منظومة المجلس.
- دعم اليمن في مواجهة مصادر التهديد الأمني الخارجي, خاصة الإيرانية منها, والقرصنة الصومالية, والهجرات الصومالية.
ويرى المحللون أن الرئيس علي صالح عندما أطلق اتهاماته بأن واشنطن وتل أبيب من يدير الاحتجاجات الداخلية في الدول العربية, كان المقصود منها إثارة الولايات المتحدة ولفت انتباهها, بأن الاحتجاجات ستنقلب ضدها إن هي تخلت عن دعمه السياسي, وهو بالطبع ينطلق من واقع اجتماعي سياسي قبلي ووجود متناقضات عديدة كفيلة بجعل اليمن على فوهة بركان, لكن ـــ بحسب التقييم الاستخباري الأمريكي لما يجري في المنطقة ـــ فإن هذه التقييمات تنطلق من رؤية أن هناك تضخيما للدور الأمريكي فيما يتعلق بصناعة الإحداث, وإنما أمريكا تستغل الظروف وتعمل على توجيهها بما يخدم مصالحها.
لكن وبحسب التقييم الأمريكي فإن مصر تختلف كثيرا عن الدول العربية من حيث البنية المدنية ووجود المؤسسة العسكرية, ومع ذلك تسعى واشنطن وتل أبيب إلى توجيه المتغيرات لتكون ضمن مصالحها وإن اختلفت شكلا, أما سبب اختلاف هذه الدول عن مصر فأغلبية الدول وعلى رأسهما النموذج الليبي واليمني بأنها مجتمعات ما زالت قبلية وفيها تيارات وقوى متقاطعة وبيئات مختلفة, ويتوقع الأمريكان أنه في حال عدم دعم نظام الرئيس اليمني ومساعدته على بناء المصالحة الداخلية, فإن اليمن يتجه بلا نقاش إلى الحرب الأهلية والقبلية والتشطير أيضا وربما إقامة إمارة إسلامية وجيب إيراني, وكذلك الحال في ليبيا, وهما نموذجان يمكن تعميمهما عربيا أيضا, وهنا ترى التقييمات الأمريكية أنه في حال عدم رضوخ القذافي واستجابته لمبادرة التنحي, فإن الحرب الأهلية والصراعات القبلية ستكون النتيجة.
وهنا يستحضر الأمريكان النموذجين الأفغاني والعراقي في الفوضى والصراع والعنف وانتشار السلاح والتنظيمات الراديكالية, ولا يمكن للشعوب أن تتفق في هذه الحرب, بل إنها تخلق قبائلية من نوع جديد, قبائلية تجارة السلاح والمصالح المتناقضة كما جرى سابقا في أفغانستان, وبهذا ترى واشنطن أن السيناريو الأسوأ هو التدخل العسكري والاحتلال المباشر, وهو ما قد تقدم عليه الولايات المتحدة في ليبيا حال حصولها على موافقة دولية, وعندها سيتم وضع اليد على النفط الليبي وسيدار ضمن مؤسسة خاصة تتبع الإدارة الأمريكية كما هو جار اليوم في العراق, رغم الحديث عن خروج أمريكا والاتفاق الأمني معها, ورغم أن هذا أحد أبرز السيناريوهات وأن طاقم المحافظين الجدد يدعو الرئيس أوباما لاستغلاله جيدا لتحقيق المصالح الأمريكية في ليبيا وأيضا في إفريقيا وأيضا إحكام السيطرة على مجريات التغيير في مصر, إلا أن بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي يرون خلاف ذلك الآن تحديدا ويدعون للتريث ومساعدة الثوار, وبحسب عضو مجلس الكونجرس الأمريكي عن الحزب الجمهوري حذر ريتشارد لوغار واشنطن من التدخل في الأحداث الجارية في ليبيا, مشيرا إلى أن حربا أهلية قد بدأت في هذه البلاد, وقال لوغار في مقابلة مع قناة "سي- إن- إن" الأمريكية يوم الإثنين 7 آذار (مارس): "أظن أن حربا أهلية حقيقية تجري في ليبيا ولا يجوز للولايات المتحدة التدخل فيها, وبعد انتهاء الحرب سيتعين على الولايات المتحدة والدول الأخرى التفكير واتخاذ القرارات حول أسلوب التعامل مع الغالبين في الحرب, أينما كانوا". ويبدو أن هناك إدراكا ليبيا رسميا بأن ثمة تنافسا دوليا على ليبيا, وهناك تنافس إقليمي تركي ــ إيراني أيضا, وهناك مخاوف من هجرة إفريقية إلى أوروبا حالة فقدان السيطرة والأمن, كما أطلق القذافي معتقلي تنظيم القاعدة, ومن أطلقهم سابقا دعاهم لمحاربة التدخل الأجنبي, فيما تؤكد مصادر استخباراتية أن إيران تخطط هي وحزب الله منذ خمس سنوات لانقلاب على القذافي وأنها من يدرب ويدعم الجماعة الليبية المقاتلة بالأموال والسلاح, وتشير المعلومات إلى أن القذافي اجتمع بعدد من زعماء القبائل الليبية ووزع عليهم الأموال والسلاح وقام بإخفاء العديد من ترسانات السلاح في الصحراء الليبية استعدادا للمستقبل, وجلب أخرى من إيطاليا وصربيا ودول في أمريكا اللاتينية ناهيك عن جلبه المرتزقة والمليشيات الإفريقية وبعض القوى المسلحة في الصومال تحديدا, وكلف العديد من الشركات العسكرية للتعاقد مع عسكريين متقاعدين للانضمام إلى قواته.
ويبدو أن القذافي كما هو الرئيس علي عبد الله صالح يحاول إخافة القبائل والمجتمع الليبي, إما حكم القاعدة, وإما الاحتلال الخارجي أو الفوضى, والقبائل الليبية تحديدا لها ذاكرة مرة مع الاستعمار الإيطالي, ولا يمكن نسيانه, كونه كان استعمارا لا إنسانيا وبشعا للغاية, وأن قمع القذافي يبقى أفضل بكثير من عودة ثانية للعهود الاستعمارية, ولهذا كان رد القبائل الليبية واضحا, وهو أنها مع التغيير السلمي للسلطة دون إراقة دماء, وهي بالضد من التدخل الأجنبي وإثارة الفوضى ضد سلطة قائمة, وفي حالة دخلت جيوش أجنبية الأراضي الليبية فإن موقفنا كقبائل سيكون مع الجهة التي تدافع عن ليبيا وتعمل على إجلاء الأجنبي مهما كانت هذه القوة, ولهذا نلاحظ أن القذافي يخيف القبائل والمجتمع الليبي بأن الغرب هدفه الحقيقي النفط الليبي وأموال ليبيا وثرواتها, بينما نلاحظ المجلس الوطني الليبي المؤقت المدني والعسكري يرفض بشدة التدخل العسكري في ليبيا لأن المعادلة ستتغير لو دخل جندي أمريكي أو غربي على أبواب المدن الليبية, ولهذا تعتبر المعادلة الليبية شديدة التعقيد, ومرشحة أيضا للحرب الأهلية حال لم يتنح القذافي ويخرج بصفقة وبضمانات أيضا.
وأعتقد أن الرئيس الليبي توصل إلى نتيجة في ظل غياب الأمل وفقدانه غياب الأمل في عودة السلطة إلى ما كانت عليه, وفقدان الأمل في وساطة بينه والمجلس الوطني, فإن القذافي يرى أن الرجوع إلى الخلف خطوات ولبس عباءة الثوار والدفاع عن ليبيا ما سيؤدي بالمحصلة إلى حرب أهلية يكون فيها القوة الرئيسة والحاسمة, وأن التدخل الغربي تحديدا على أي صيغة عسكرية أو سرية أو دعم للثوار ستدعم موقفه الداخلي وستغير وجهة نظر المجتمع الليبي عنه, وستؤكد لليبيين أن الهدف ليس حماية الأمن والاستقرار وتخليص المجتمع من نظام القذافي, إنما الهدف الرئيس هو السيطرة على ثروات ليبيا, خاصة أن الصين حذرت من التدخل العسكري والمساس بالمصالح الصينية في ليبيا, وهو ما يعطي انطباعا بأن حرب مصالح كانت وراء ما يجري!!
كوابح ومخاوف وتداعيات
يبدو لنا أن الإدارة الأمريكية بدأت تضع كوابح كبيرة لوقف تداعيات الأحداث الأخيرة والعنيفة على الطريقة التونسية والمصرية والليبية, في ظل طروحات وتحليلات تؤكد أن تونس ومصر لن تتمكنا من إقامة سلطة مستقلة ومستقرة دون تداعيات وفوضى خلال الأعوام الخمسة المقبلة, فقد ذكرت صحيفة "يديعوت أحرنوت" 5 آذار (مارس) الجاري نقلا عن لقاء خاص عقد في البيت الأبيض ولجنة الرؤساء التابعة للوبي الصهيوني في أمريكا أكد فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن على أمريكا وإسرائيل اليقظة مما يجري, وألا نكون ساذجين في رؤيتنا وتقييمنا, فهناك من يعبث بأمن المنطقة, ومع ذلك سنبقى على كامل التزاماتنا نحو أمن إسرائيل, وهو مقدس بالنسبة لأمريكا. وحول المخاوف الإسرائيلية مما يجري, قال أوباما سنتدخل في الوقت المناسب ونمد يد العون, وربما هناك هزة خفيفة في الطريق, لكني واثق بأن المستقبل أفضل, وأكد أوباما أن أمريكا تنتهج استراتيجية واقعية في الشرق الأوسط. وبحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" 4 آذار (مارس) الجاري أكد أوباما: لقد قررنا دعم حلفائنا في المنطقة, ونشجعهم على الإصلاح من الداخل, ولو اضطر المواطنون الذين يطالبون بالديمقراطية الكاملة للانتظار. وبدلا من المطالبة بتغيير الزعماء على الفور مثلما فعلت الولايات المتحدة مع مصر وليبيا حاليا, وأكد التقرير أن واشنطن تطالب المتظاهرين من البحرين إلى المغرب بالعمل مع الزعماء الحاليين حول ما يطلق عليه المسؤولون في الإدارة الأمريكية والدبلوماسيون (إصلاح النظام).