الاستيطان الإسرائيلي والتراجع الأمريكي (1 من 2)

استبشر جمهور كبير من العرب والمسلمين خيراً عندما تولى الرئيس باراك أوباما منصب رئاسة الولايات المتحدة؛ لأن شعار حملته الانتخابية كان (التغيير) سواء في السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية. وازداد هذا الاستبشار بولايته عندما خاطب الرئيس أوباما العالم الإسلامي من جامعة القاهرة بتاريخ 04/06/2009، حيث قال إنه جاء إلى القاهرة للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم استناداً إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، وأشاد بالحضارة والقيم الإسلامية، وأعلن عدم شرعية المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ودعا إلى وقف إنشاء مستوطنات جديدة، وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني.
ولقد علقت على هذا الخطاب في مقال منشور في جريدة ''الاقتصادية'' بتاريخ 27/06/1430هـ الموافق 20/06/2009 بعنوان (هل يطبق أوباما مبدأ ستيمسون على الاحتلال الإسرائيلي؟!). إذ قلت في نهايته ما يلي:
''لقد كان للولايات المتحدة دور بارز ومهم في ترسيخ المبدأ الذي استقر في القانون الدولي المعاصر والخاص بتحريم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. فقد وضعت الولايات المتحدة هذا المبدأ موضع التطبيق في موقفها المعارض لاستيلاء اليابان بالقوة المسلحة على بعض أراضي إقليم منشوريا الصينية خلال الاشتباكات التي وقعت بين اليابان والصين عام 1931 و1932، إذ بعث ستيمسون وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك رسالة إلى كل من الصين واليابان بمناسبة النزاع الذي كان دائراً بينهما، أكد فيها أن أي تغيير في الأوضاع الإقليمية يتم عن طريق القوة أمر لا يمكن الاعتراف به. وقد اعتبر بعض فقهاء القانون الدولي العام أن هذه الرسالة تعد أحد الجهود التي بذلت قبل إنشاء هيئة الأمم المتحدة من أجل ترسيخ مبدأ تحريم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، وأسموه مذهب أو مبدأ ''ستيمسون''. وقد أكد المستر ستيمسون في خطاب آخر وجوب إعمال هذا المبدأ، وأنه لا يجوز للمعتدي أن يجني ثمار عدوانهNo Fruits Of Aggression.
لقد طبقت الولايات المتحدة مبدأ ستيمسون في قضايا دولية سابقة، منها قضية العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، حيث وقفت وقفة حاسمة ضد هذا العدوان ومارست ضغوطاً لإجبار القوات الغازية على الجلاء من الأراضي المصرية، كما قادت تحالفاً دولياً لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي في عهد صدام حسين.
إن الولايات المتحدة تدرك أن إسرائيل لن تنسحب من الأراضي الفلسطينية إلا إذا أجبرت على ذلك، وليس من سبيل في الوقت الراهن إلى إجبار إسرائيل على الانسحاب من هذه الأراضي إلا إذا تمسكت الولايات المتحدة بقوة بمبدأ ''تحريم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة''، واتخذت الإجراءات والتدابير الكفيلة بتحرير الأراضي الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي ومساعدة الفلسطينيين على إنشاء دولتهم المستقلة ذات السيادة.
إن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد درس القانون في جامعة هارفرد العريقة، ويعلم جيداً أن الممارسات الإسرائيلية القمعية والوحشية ضد شعب فلسطين قد انتهكت جميع القواعد القانونية والأخلاقية الدولية، والمطلوب أن تقوم الولايات المتحدة في عهده بإخضاع إسرائيل للقانون الدولي، فهل سيجد المسلمون عنده عزماً على ذلك؟ هذا هو السؤال الذي يبحث عن إجابة''.
لقد جاءت الإجابة عن هذا السؤال من المواقف الأمريكية الأخيرة حيال القضية الفلسطينية، فالرئيس أوباما ثبت عجزه عن اتخاذ إجراءات عملية تجبر إسرائيل على الخضوع لأحكام القانون الدولي، بل خضع هو لطغيان جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة، وكفت إداراته عن بذل الجهود الخاصة بإقناع إسرائيل بضرورة تجميد الأنشطة الاستيطانية في الأراضي المحتلة كشرط لاستئناف المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، لا بل أيدت المطلب الإسرائيلي بإبعاد أي مفاوضات تجري مع الفلسطينيين عن تدخل المجتمع الدولي حتى تتجنب أي ضغط دولي يهدف إلى كبح سياستها التوسعية.
ثم جاء الموقف الأمريكي الأخير في مجلس الأمن ليزيد التأكيد على العجز الأمريكي، فقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي بتاريخ 19/02/2011 ضد مشروع قرار يقضي بإدانة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية بعد أن أخفق مسعاها في إقناع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بسحب مشروع القرار من مجلس الأمن، وأشارت بعض التقارير الإعلامية إلى أن أوباما هدد عباس بأنه يغامر بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وأنه في حال إصراره على موقفه بعدم سحب مشروع القرار، فإنه سيكون من الصعب التعامل معه مستقبلا، وأن انعكاسات ذلك ستجعل من الصعب على الولايات المتحدة وحلفائها في العالم تقديم أي مساعدات للسلطة الفلسطينية، وأن عباس رد على هذا التهديد بأنه يعتبر الاستيطان غير شرعي، وأن هذا ما ينص عليه القانون الدولي، متسائلاً عن سبب الرفض الأمريكي للمشروع الذي يستخدم عبارات كانت وردت في خطاب الرئيس الأمريكي نفسه ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، وأن عباس أبلغ أوباما أن الولايات المتحدة تتعامل مع إسرائيل كدولة فوق القانون، وأن هذا سيشجع إسرائيل على مزيد من الاستيطان في الأراضي الفلسطينية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي