ثورة الجماهير وسقوط الجماهيرية في ليبيا

إن الثورة في كل من تونس ومصر أعادت الاعتبار إلى العرب، وأعادتهم إلى دائرة التاريخ بعد أن خرجوا منها. وأحسب أن شعار المصريين ''ارفع رأسك فأنت مصري'' جدير بالتأمل والتدبر. إذ إنه يؤرخ لبداية مرحلة جديدة يصبح المواطن العربي فيها فاعلاً ومهيمناً في المجال العام، بعد أن ظل سنوات طويلة مغلوباً على أمره راضياً بما يملى عليه من سياسات وقرارات عامة.

#2#

وأحسب أن ثقافة السكون والاستكانة والسلبية التي جسدتها أغنية الراحل محمد عبد الوهاب بكلماتها القائلة: ''ما أحلاها عيشة الفلاح متطمن قلبه ومرتاح .. دي الشكوى عمره ما قالهاش إن لاقى والا ما لاقاش'', قد ذهبت إلى غير رجعة, بل أضحت مفاهيم الاحتجاج والثورة والمطالبة بالتغيير والإصلاح، تشكل أبرز مفردات الخطاب الجماهيري العربي. إننا أمام لحظة فارقة في التاريخ العربي الحديث، يمكن أن تمثل بداية لنهضة عربية شاملة إذا ما استنهضت الأمة مكامن قوتها، واستثمرت أرصدة قوتها التي أهدرت لسنوات طويلة. لقد استفاقت الجماهير العربية من غفلتها ولن ترضى عن الحرية والديمقراطية بديلاً.

العدوى الثورية
لقد وجدت ليبيا نفسها محاصرة بين ثورتين، ثورة الياسمين في تونس, التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي, وثورة اللوتس المصرية التي أجبرت الرئيس حسني مبارك على التنحي والعيش في منفاه الاختياري في منتجع شرم الشيخ على ساحل البحر الأحمر. كان منطقياً أن يمر قطار الثورة السريع في شمال إفريقيا بالمدن الليبية. وسرعان ما نظم الشباب الليبي مظاهرات احتجاجية في يوم أطلقوا عليه ''يوم الغضب''، طالبوا من خلالها بإسقاط نظام العقيد معمر القذافي.
ويبدو أننا أمام حالة ثورية تتكرر فصولها ومشاهدها ـــ وإن اختلفت الشخصيات وأماكن الأحداث, فالعقيد القذافي الذي تولي السلطة من خلال انقلاب عسكري في الفاتح من أيلول (سبتمبر) عام 1969 يعد أقدم حاكم عربي وإفريقي على الإطلاق. وعادة ما يحلو له أن ينادى بعديد من الألقاب الفخرية؛ مثل ''قائد الثورة'' و''عميد الحكام العرب'' و''ملك ملوك إفريقيا'' وهلم جرا.
واتسم القذافي عبر العقود الأربعة الماضية بالغرابة والتناقض في حركته الداخلية والخارجية, ففي عام 1975 أصدر ''الكتاب الأخضر'' على منوال كتاب ماوتسي تونج الأحمر. ولخص العقيد القذافي في هذا الكتاب رؤيته الفلسفية بالنسبة لقضايا السياسة والحكم, التي جاءت بشكل عبثي غير متجانس يجمع بين أفكار مستمدة من القومية العربية والاشتراكية والإسلام. ففي الجزء الأول من الكتاب الأخضر, الذي جاء بعنوان: ''الحل لمشكلة الديمقراطية'' تأكيد على مفهوم الديمقراطية الشعبية المباشرة, إذ إنه يرى أن الممارسة الديمقراطية الصحيحة هي تلك التي تقوم بها الجماهير مباشرة وليس عن طريق ممثلين لهم.
ومن الطريف أن القذافي كان دائماً ما يزعم أنه ليس رئيساً للدولة, إنما هو قائد للثورة، وفي أحد لقاءاته بالأساتذة والمفكرين عام 2006 زعم أن الحكومة الليبية أكثر حرية وديمقراطية من الحكومات الغربية, بل إن ليبيا من وجهة نظره هي الدولة الديمقراطية الوحيدة على سطح المعمورة.

ما الذي حدث خطأ في ليبيا؟
هل ثارت الجماهير على دولة الجماهير؟ لقد انطلق المحتجون إلى نصب الكتاب الأخضر بمدينة طبرق حيث انهالوا عليه تحطيماً وتكسيراً. ومثلما فعلت الجماهير التونسية والمصرية حينما قامت بإحراق وتحطيم رموز الاستبداد في البلدين، كذلك فعل أحرار ليبيا وثوارها الذين أرادوا استنشاق عبير الحرية والتخلص من نظام الاستبداد إلى الأبد. وأحسب أن أحفاد أسد الصحراء عمر المختار أرادوا أن يعيدوا الأمور إلى نصابها ويصلحوا ما أفسده عليهم حكامهم عبر العقود الماضية.
لقد تم توصيف نظام الحكم في ليبيا وفقاً لمنظمة بيت الحرية Freedom House، على أنه ديكتاتوري ـــ بحسبان أن ليبيا دولة غير حرة. وسجلت ليبيا أسوأ معدل في مجال حقوق الإنسان والحريات المدنية عام 2010. ومقارنة بحالة كل من تونس ومصر، فإن ليبيا تعد الأسوأ في هذين المجالين على الإطلاق. وإذا كان مفهوم الديمقراطية يخضع لتفسيرات وتأويلات متعددة فإن إمساك حاكم أوتوقراطي مثل العقيد القذافي بزمام السلطة لمدة تزيد على 40 عاماً، أبعد ما يكون عن معاني الحكم الصالح وحرية الاختيار من قبل الجماهير.
وتشير تسريبات ''ويكيليكس'' إلى بعض ملامح شخصية العقيد القذافي, ففي برقية للسفير الأمريكي في طرابلس جين كيرنز عام 2009 وصف دقيق لماهية العقيد، حيث إنه: ''شخصية زئبقية وغريب الأطوار. يعاني الخوف الشديد ويزعج كلا من أصدقائه وأعدائه على السواء''. وعادة ما يعتمد القذافي على أربع ممرضات أوكرانيات من بين أفراد حاشيته, وهو ما يطرح عديدا من التساؤلات حول علاقاته الرومانسية.
ولم يكن بمستغرب إذن أن يكون سلوك القذافي الخارجي متسما بالبهلوانية والتقلب الشديد, فهو تارة ما يطرح نفسه باعتباره نصيرا للثورة في كل مكان من جنوب إفريقيا حتى نيكاراجوا، وتارة أخرى متحدثا باسم القومية العربية بحسبانه أمينا لها بعد جمال عبد الناصر، وتارة ثالثة منددا بالعروبة كافرا بمبادئها وداعيا إلى الوحدة الإفريقية التي وجد فيها ملاذا لإرضاء طموحاته القيادية.
لقد عانت ليبيا معظم سنوات حكم القذافي من علاقاتها العدائية مع الغرب والولايات المتحدة على وجه التحديد؛ نتيجة اتهام القذافي بمساندة الجماعات الراديكالية والإرهابية في أنحاء مختلفة من العالم, ففي عام 1986 أمر الرئيس الأمريكي رونالد ريجان طائراته الحربية بشن غارة جوية على طرابلس بهدف التخلص من القذافي. وفي عام 1988 اتهمت ليبيا بأنها تقف وراء تفجير طائرة البانام فوق ضاحية لوكربي الاسكتلندية التي قتل فيها 270 شخصا.
بيد أن القذافي عاد مرة أخرى ليتخلى عن مبادئه الثورية مقابل تطبيع العلاقات مع الدول الغربية. ولعل الخطوة الأولى الحقيقية في هذا الاتجاه كانت في عام 2003 عندما أعلنت طرابلس بشكل مفاجئ، تخليها عن برنامجها النووي، ثم جاء قرار العقيد معمر القذافي دفعَ تعويضات لأسر ضحايا طائرة ''بان أميركان'' التي أسقطت فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية. وتمت مكافأة القذافي أمريكيا بإعلان واشنطن رفع اسم ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 2006.
وربما يمكن فهم سلوك القذافي وحركته الخارجية في سياق محاولته البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، ليس هذا فحسب, بل تمرير مشروع توريث الحكم لنجله سيف الإسلام القذافي. واتضح ذلك بجلاء في إدارة النظام الليبي حركة الاحتجاجات الشعبية العارمة التي شهدتها معظم المدن الليبية. لقد أعلن النظام من خلال نجل العقيد القذافي المهندس سيف الإسلام أنه سيقاتل حتى آخر طلقة وآخر امرأة وآخر رجل. وأحسب أن ذلك يعد توثيقا معلنا لجرائم الحرب والإبادة الجماعية التي مارسها القذافي ضد أبناء شعبه.

نحو نموذج عربي للتغيير
على أية حال فإن نظام القذافي الذي زعم أنه يستند إلى سلطة الشعب قد سقط وفقد مشروعيته. وإذا كان الخطاب العربي المرتبط بالإصلاح والتغيير الديمقراطي، قد انقسم على نفسه فيما يتعلق بآليات التحول, حيث طالب البعض بضرورة الاعتماد على الخارج في دعم جماعات المعارضة وقوى المجتمع المدني العربي, في حين طالب بعض آخر بضرورة الاعتماد على آليات التحول المعتمدة على القوى الداخلية باعتبارها الأكثر ديمومة والأقل تكلفة, فإن أنظمة الحكم الأوتوقراطية في العالم العربي قدمت نفسها باعتبارها البديل الأوحد للفوضى والانهيار.
وعليه فإن نماذج الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وكذلك الأعمال الاحتجاجية التي تشهدها دول عربية أخرى, تؤكد أن إرادة الجماهير العربية الساعية إلى التغيير قدمت نموذجاً يحتذى في التغيير السلمي والتحول الديمقراطي استناداً إلى قوى دافعة نابعة من الداخل العربي.
وأذكر أن السفير الأمريكي السابق في إيران وليم سوليفان كتب في مذكراته أن مستشار الأمن القومي الأسبق زبجنيو برزنسكي أكد مراراً للشاه الإيراني محمد رضا بهلوى، أن الولايات المتحدة تساند نظامه بكل قوة, ففي 4 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1978 اتصل برزنسكي بالشاه هاتفياً، ليخبره بأن الولايات المتحدة ستقف إلى جانبه حتى النهاية. ومع ذلك توصل البيت الأبيض آنذاك إلى نتيجة مفادها أن الثورة الشعبية أمر لا يمكن تجنبه في إيران، وأن الخيار الأخير للولايات المتحدة هو دعم انقلاب عسكري يعزز نظاماً موالياً للغرب وللولايات المتحدة في طهران. بيد أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن, فقد خرجت حركة الجماهير الإيرانية عن نطاق السيطرة, وهو ما أدى إلى تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران.
وأظن أن إدارة أوباما كررت السيناريو نفسه عام 2011 مع الثورة المصرية, ففي الأيام الأولى لمظاهرات ميدان التحرير اتصل الرئيس أوباما بالرئيس المصري حسني مبارك، وطالبه بإدخال إصلاحات تدريجية وسلمية تلبي طموحات الجماهير. وفي السياق نفسه أشاد نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن بالرئيس حسني مبارك واعتبره حليفاً استراتيجياً لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل. ومع اتساع نطاق الثورة المصرية, على الرغم من استخدام العنف ضدها, اضطرت الإدارة الأمريكية إلى تغيير لغة خطابها السياسي في التعامل مع (الأزمة) المصرية, كما أطلقت عليها, حيث طالب الرئيس أوباما علناً بضرورة تنحي الرئيس مبارك وتسليم السلطة لحكومة انتقالية.
وأحسب أن الدرس المستفاد من الثورات العربية لكل من الغرب وقوى المعارضة في الوطن العربي هو أن آليات التحول والتغير المعتمدة على الداخل ودون الاستقواء بالقوى الدولية هي الأفضل. ولعل النموذجين الأفغاني والعراقي يطرحان نموذجا مختلفاً من حيث ارتفاع تكلفته وعدم وضوح رؤيته بالنسبة للمستقبل. وفي المقابل فإن ثورتي تونس ومصر يقدمان نموذجا يحتذى من أجل التغيير والانتقال السلمي للسلطة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي