الجيوش العربية .. (الحياد) للمصلحة العليا
أداء الجيش في تونس كان مشرفا، فقد لزم الحياد وانحاز إلى المصلحة العليا للوطن، احتوى الشارع ووقف حائلا بين الناس والشرطة، ثم تدخل مضطرا ليحسم الأمر وينصح الرئيس بالرحيل.. هكذا قدر مصلحة البلد.
الجيش المصري أيضا كان له موقفه الوطني المشرف الذي يرفع رصيده في النضال والحرب لحماية مصر، فكلنا نعرف موقفه الكبير في حرب 73، حيث قدم الشهداء وأوجد الأبطال.. وفي موقفه منذ بداية الثورة الأخيرة حتى الآن ثمة مؤشرات على أن الجيش تحول إلى مؤسسة عسكرية محترفة لها ثقافة المنظمة وأخلاقياتها وآدابها.. وتطلعاتها المشروعة لحماية الدولة والمجتمع.
أجزم أن أكثر ما يرعب إسرائيل، وحتى الدول الغربية الداعمة لها، هو أن ترى الجيوش العربية وقد تحولت إلى مؤسسات محترفة منضبطة، تدار وتوجه وفقا للمصالح العليا، وتتمتع بالنزاهة والبعد عن الفساد وعدم الوقوع في وَحْلِ السياسة وتداخلاتها.. بلا شك هذه صورة مفزعة لهم، ولكنها مفرحة لنا جميعا.
الجيوش في العالم العربي، وحتى في أغلب الدول النامية، كان لها دورها الوطني المشرف في الاستقلال، وفي حماية الشرعية حين الاضطراب والأزمات، وهذا الدور كان يفترض أن يكون مرحليا، أي ينتهي مع زوال الخطر عن الدولة والمجتمع، وبعد ذلك تحال السلطة إلى حكومات مدنية محترفة تتولى إدارة البلاد.. هكذا كان التصور الإيجابي، لكن المشكلة أن الجيوش وقادتها استعذبوا (حلاوة وخمرة) السلطة والحكم وأحبوا الكراسي!
ربما بقاؤها في السلطة سيكون مقدرا ومطلوبا لو أن القادة كان لديهم الدراية الكافية بمتطلبات إدارة السياسة والتنمية والاقتصاد، بحيث يستطيعون أن يقودوا البلاد بما يحقق مصالح الناس ويدعم استقرارها ورفاهيتها.. ومن التجربة التي مر بها كثير من الدول، ثبت أن العسكر ينجحون في إدارة المعارك، ولكن ليس بالضرورة أن ينجحوا في إدارة الجامعات والمستشفيات والمصانع والشركات.. وكل مفاصل الدولة الحيوية.
لو بقيت الجيوش في مواقعها وسُلِّمت الإدارة لحكومات مدنية لربما كان هذا أفضل. لدينا تجربة الجيش في تركيا، فعندما ابتعد عن الحياة السياسية وترك الحكومة المنتخبة تقوم بدورها بدون تدخل وإملاءات، استطاعت الأحزاب التركية أن تتحول سلميا وإيجابيا في إدارة الدولة، وبالتالي تحقيق معدلات نمو اقتصادي متصاعد، انعكس على الاستقرار السياسي الذي أنقذ تركيا من صدام مدمر بين جيلين مختلفين في التصور والأهداف والسلوك والتطلعات.
وتركيا، كبقية الدول الإسلامية، تشهد تحولا تاريخيا في نمو الأجيال، ويبدو أن الجيش في تركيا عرف هذا التحول وقرأ مؤشراته فآثر الانسحاب السلمي.. (نرجو أن يكون كذلك)، والعالم الإسلامي كما شهدنا في تونس ومصر، وقبلهما تركيا، يواجه جيلا ساهمت البيئة الدولية الجديدة في تنشئته الاجتماعية، فدخول العالم في إحساس (القرية الكونية)، الذي توقعه مارشال ماكلوهان، وطرح حوله نظرية تعد من كلاسيكيات نظريات الاتصال, وقد شاهدنا كيف كان العالم يتابع ميدان التحرير، ويتابع تفاصيله، ويعرف ما يجري فيه أكثر مما تعرفه الحكومة المصرية، ويسمع الأصوات ويرى الدموع ويشارك فيها. في عالمنا اليوم، توجد متغيرات فكرية ونفسية تؤثر بشكل كبير في الصياغة الوجدانية للشباب، وهي ما يعبر عنها الآن بصور متعددة، في الملبس، المأكل، التواصل الاجتماعي، وطرق التفاعل مع الآخر، كما أن له رؤيته الكبيرة والواسعة للدولة والمجتمع والعالم.
في الدول الغربية رغم إنجازات الجيوش في الحروب الكبرى، إلا أنها بقيت بعيدة عن السياسة، وقادة الحروب أغلبهم انتهى دورهم بعد الحرب، ولم يكن لهم حضور في الشأن العام، وفي التاريخ القريب نذكر كيف أن شوارزكوف رغم أنه حظي بتكريم الأبطال في أمريكا بعد حرب الخليج وتحرير الكويت، إلا أنه لم يحظ بالنجمة الخامسة.. وانتهى إلى التقاعد.
الجيوش العربية يفترض أن تبقى (مؤسسات محترفة) تتمتع بالكفاءة الإدارية والجاهزية القتالية، كما أن عليها دورا تنمويا كبيرا، وهو المساهمة في مشاريع التنمية المستدامة، كما يجب أن تُستثمر كمؤسسة مهمة للتربية الوطنية للشباب ووسيلة فعالة في التدريب وتنمية الموارد البشرية.. كل هذا يكرس دورها كمؤسسات رائدة في خدمة وحماية المصالح العليا للدولة والمجتمع.