ثورة مصر والتدخل الأجنبي

يبدو أن العالم العربي بدأ ينتقل من حقبة الانقلابات العسكرية إلى حقبة الانتفاضات والثورات الشعبية، فآخر انقلاب عسكري شهده العالم العربي كان في موريتانيا في عام 2005، عندما أطاح الجيش بالرئيس معاوية ولد الطايع. ونتيجة لعوامل عديدة ثار شعب تونس ثورة عارمة أدت إلى إسقاط الرئيس زين العابدين بن علي وهروبه من البلاد في يوم الجمعة 14/1/2011، بعد حكم استبدادي قمعي دام 23 عاما. وفي 25/1/2011 فجَّر شباب مصر ثورة شعبية حققت عددا من مطالبها الرئيسة، أهمها أنها أنهت عمليا حكم الرئيس حسني مبارك الذي تبوأ منصب الرئاسة منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1981، وجعلته يعلن عدم رغبته في الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، كما دفنت مشروع توريث الرئاسة لابنه جمال، وأحيل عدد من الوزراء والمسؤولين السابقين إلى التحقيق بشأن ما نسب إليهم من اتهامات مختلفة، منها الاستيلاء على المال العام والإثراء غير المشروع. وما زال الخلاف قائما ومحتدما بين الشباب الثائر ونظام الحكم المتصدع، فالشباب يريد إسقاط النظام برمته وتنحية الرئيس مبارك عن السلطة فورا وحلّ مجلس الشعب الذي نشأ من انتخابات مطعون في نزاهتها، والنظام يرى ضرورة بقاء الرئيس حتى انتهاء مدة ولايته الحالية التي تنتهي في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل؛ كي يتسنى إجراء التعديلات الدستورية والتشريعية اللازمة لإجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة وفقا لقواعد دستورية جديدة؛ لأنه لو تنحى الرئيس فإنه طبقا من للمادة (84) من الدستور الحالي يتولى رئيس مجلس الشعب الرئاسة مؤقتا ووجب انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال مدة لا تتجاوز 60 يوما من تاريخ خلو منصب الرئاسة، وشريطة ألا يرشح رئيس مجلس الشعب للرئاسة. وهذا يعني أنه في حالة تنحي الرئيس مبارك يتعين إجراء انتخابات رئاسية طبقا للقواعد والشروط المنصوص عليها في الدستور الحالي دون إدخال أي تعديلات عليها؛ لأن المادة (82) من الدستور الحالي لا تجيز لمن ينوب عن رئيس الجمهورية أن يطلب تعديل الدستور أو حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو إقالة الوزارة. وهناك رأي آخر ذهب إليه بعض فقهاء القانون الدستوري في مصر مفاده أن الدستور الحالي سقط بثورة الشباب، وبالتالي سقطت شرعيته ونشأت شرعية جديدة؛ وتبعا لذلك يتعين تكوين حكومة انتقالية تتولى إدارة البلاد والإشراف على انتخاب جمعية تأسيسية تتولى إعداد دستور جديد للبلاد تنظم بمقتضاه الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة.
وبالرغم من أن ما حدث ويحدث في مصر شأن داخلي محض في المقام الأول، وشأن قومي عربي في المقام الثاني، إلا أن الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية لم تجد جناحا في التدخل في هذا الأمر بطريقة فجة واستفزازية أحسب أن الثائرين على نظام مبارك لا يقبلونها؛ لأنها تمس سيادة مصر وكرامتها، فالولايات المتحدة كانت تؤيد حكم الرئيس مبارك تأييدا كاملا بوصفه حليفا استراتيجيا مهما، وبسبب هذا التحالف الذي اقتضى مراعاة مصالح وأمن إسرائيل، لم تحظ سياسة الرئيس مبارك بأي شعبية في الوطن العربي، بل كانت محل نقد مرير، ثم انقلبت الولايات المتحدة عليه بعد ثورة الشباب وأخذت تطالبه بالتنحي عن السلطة فورا ثم أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قرارا يوم 3/2/2011 يحث الرئيس مبارك بتشكيل حكومة انتقالية تتولى عملية نقل السلطة. بل إن الرئيس أوباما طالب يوم الجمعة 4/2/2011 (بانتقال السلطة الآن) وكأن مصر ولاية أمريكية أو دولة تقع تحت الانتداب الأمريكي. ثم بدأ الرئيس الأمريكي تغيير لهجته؛ إذ أعلن أنه يعتبر مصر قد (أحرزت تقدما) تجاه انتقال السلطة بعد أن بدأ نائب الرئيس المصري عمر سليمان محادثات مع بعض عناصر المعارضة المصرية، وما زال بعض المسؤولين الأمريكيين يدلون بتصريحات متناقضة حول الأوضاع في مصر تجنح تارة نحو تأييد بقاء الرئيس مبارك حتى انتهاء ولايته الحالية وتجنح تارة أخرى نحو المطالبة بإجراء سريع لنقل السلطة، ولكن نحمد الله تعالى أن رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأمريكية الجنرال مايكل مولين طمأننا بأن الوضع الراهن في مصر لا يستدعي رفع درجة التأهب للجيش الأمريكي للقيام بأي مهام عسكرية.
إن مصر دولة عربية كبرى وعريقة وشعبها أبي لا يرضى بهذا التدخل في شؤونه الداخلية، وهو أدرى بمصالحه، وشباب مصر ورجالها قادرون على ترتيب أوضاع بلادهم دونما حاجة إلى نصائح أو توجيهات من أي شخص أو جهة حتى لو كانت دولة عظمى. لا بد من التذكير بأن القانون الدولي العام لا يجيز لأي دولة أن تتدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لدولة أخرى، وقد نص ميثاق الأمم المتحدة على عدم جواز هذا التدخل. ولقد أوضح فقهاء القانون الدولي العام مفهوم التدخل في مؤلفاتهم وأبحاثهم، منهم الدكتور علي إبراهيم، أستاذ القانون الدولي العام في كلية الحقوق في جامعة عين شمس المصرية، الذي خصص فصلا خاصا لموضوع التدخل في كتابه (الحقوق والواجبات الدولية في عالم متغير) أوجز هنا بعض جوانبه، حيث أشار إلى المفهوم العام للتدخل طبقا للقانون الدولي العام بأنه (سلوك أو عمل صادر عن دولة ما تبحث عن التسلل داخل النطاق المقصور على دولة أخرى بهدف مساعدتها على تنظيم شؤونها الخاصة بها، أو الحلول محلها وتنظيمها بدلا منها، أو تنظيمها بشكل معين حسب هوى ورغبة الدولة الأولى). ثم أوضح الدكتور علي إبراهيم مفهوم الشؤون الداخلية للدولة بأنه كل شأن خاص يسمح فيه مبدأ السيادة للدولة بأن تتصرف فيه بحرية، مثل اختيار نظامها السياسي. ونظامها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
ثم يضرب الدكتور علي إبراهيم مثالا على عدم مشروعية التدخل بالحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية عام 1986 بشأن القضية التي كانت قائمة بين الولايات المتحدة ونيكاراجوا، حيث ادعت الولايات المتحدة - من أجل تبرير تدخلها وعدوانها المسلح - بأن نيكاراجوا قد أخذت على عاتقها التزامات داخلية لم تف بها ولم تنفذها في الداخل، حيث تعهدت أمام منظمة الدول الأمريكية بأنها ستنفذ (خطة سلام داخلية) قوامها احترام حقوق الإنسان، وإقامة نظام ديمقراطي يعتمد على تعدد الأحزاب والانتخابات الحرة، وما إلى ذلك من المسائل السياسية الداخلية. ولكنها أخلت بهذا الوعد؛ الأمر الذي دعا أمريكا وبعض دول أمريكا الوسطى إلى التدخل الجماعي من أجل إجبار نيكاراجوا على احترام هذه الالتزامات التي قطعتها على نفسها وبالذات احترام حقوق الإنسان.
ردت المحكمة على هذا الزعم الأمريكي قائلة: إنها لا تجد فيما يسمى (بخطة السلام) أي التزام قانوني على عاتق نيكاراجوا؛ لأن التعهد هنا مسألة داخلية بحتة تتعلق بالشؤون الخاصة بالدولة. ولا يوجد فيه أدنى عرض رسمي قانوني، إنه مجرد وعد سياسي صدر أمام المنظمة وأمام شعب نيكاراجوا الذي سيكون هو المستفيد الأول منه. وما فائدة أمريكا فيه؟ لا شيء، وأضافت المحكمة: وعلى فرض أن هذا الوعد السياسي له قيمة الالتزام القانوني فهو لا يسمح للولايات المتحدة بأن تدس أنفها في شؤون نيكاراجوا الداخلية وتطلب منها وضعه موضع التنفيذ، فالوعد لم يتخذ أمام أمريكا. وإنما صدر أمام منظمة الدول الأمريكية. وهذه الأخيرة وحدها هي التي يحق لها أن تبحث مدى تنفيذه. أما دور رجل البوليس الذي تقوم به أمريكا فهو مرفوض، حيث إن أمريكا لا علاقة لها بالمسائل الداخلية للآخرين.
وانتهى الدكتور علي إبراهيم إلى القول إن محكمة العدل الدولية كانت واضحة تمام الوضوح في أن النظام السياسي الداخلي لنيكاراجوا وما ينطوي عليه من انتخابات وتعدد الأحزاب وحرية الكلام والنقابات، وما إلى ذلك هو شأن داخلي بها. وتنكر صراحة على الولايات المتحدة القيام بدور (رجل البوليس) الذي يفتش عن احترام القانون داخل حدود الدول الأخرى. فمنظمة الدول الأمريكية هي المختصة بفحص مدى احترام الوعد والالتزامات الواردة به. وطالما أن المنظمة لم تر في عدم الوفاء به أي خرق لالتزامات قانونية محددة فلا شأن لأمريكا بذلك.
فالقاعدة القانونية التي كشفت عنها المحكمة في هذا الحكم تحظر على الآخرين أن يأخذوا موقفا من المسائل التي تحتفظ الدولة تجاهها بحرية التصرف طبقا لمبدأ السيادة. وكل موقف مخالف لذلك فهو مرفوض قانونا طالما أنه يمثل انغماسا في شؤون داخلية خاصة بدولة أخرى، حتى ولو ارتدى مسموح حقوق الإنسان. يمكن للدولة أن تأسف لحدوث أمر معين في دولة أخرى، ولكن هذا الأسف لا يعطيها سلطة التصرف بدلا من الدولة المعنية صاحبة الحق والشأن، ولا يبرر لغيرها القيام بتنفيذ سياسة معينة تجاه المسائل التي تعد من صميم الاختصاص الداخلي لها.
والشؤون الداخلية للدولة - حسب المفهوم السابق - تشمل إذن حرية الدولة في اختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي طالما أنه لا توجد قيود عليها مفروضة طبقا لمعاهدة دولية أو قاعدة عرفية عامة التطبيق.
أعود إلى الشأن المصري فأجد أن الأسلوب الذي يعد نموذجا دبلوماسيا مثاليا لتحديد الموقف تجاه الأحداث في مصر هو ما عبر عنه مجلس الوزراء السعودي في جلسته التي عقدت يوم الإثنين 7/2/2011 برئاسة نائب خادم الحرمين الشريفين الأمير سلطان بن عبد العزيز، حيث قال وزير الثقافة والإعلام في سياق بيانه عن هذا الاجتماع إن (المجلس تابع تطورات الأحداث في جمهورية مصر العربية الشقيقة وعبَّر عن أمله بأن تحل الأمور بالطرق السلمية بما يحفظ استقرار وأمن مصر ولا يؤثر سلبا في اقتصادها لمواصلة القيام بدورها التاريخي في الوطن العربي والإسلامي وعلى الساحة الدولية).
نخلص من جميع ما سبق إلى أنه يتعين على الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأخرى الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لمصر، فشعبها العربي العريق أدرى بمصالحه وقادر على تنظيم وترتيب أموره بشكل حضاري.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي