السقوط عند أول اهتزاز

شاهدت منذ فترة فيلما يتناول قصة حياة ماري أنطوانيت زوجة لويس السادس عشر آخر ملوك فرنسا قبل الثورة الفرنسية، ومع أن القصة ذات دراما ونهاية مأساوية تاريخية شهيرة، إلا أن ما شد انتباهي في معظم لقطات الفيلم هو أسلوب ملابسها ذات التصميمات الغريبة والتفاصيل المعقدة والطبقات المتعددة من الدانتيل والمزركشة بالخيوط المذهبة، والمنفوخة بشكل فكاهي نسبة إلى أزياء عصرنا، واعتقدت حينها أن مصمم الأزياء الخاص بالفيلم قد بالغ في تصميم ملابس دور الملكة، ما أثار فضولي للقراءة عن طبيعة ملابسها الواقعية من الكتب التاريخية، فصدمت بحياة البذخ والترف اللذين كانت ترتع فيهما، وكيف أنها كانت تطلب من مصممي الأزياء التفنن والابتكار في حياكة موديلات ملابسها، وكانت تسريحاتها المنحوتة للشعر ترتفع فوق رأسها بثلاثة أقدام، ولذلك فقد عرفت كصاحبة أعقد تركيبة شعر في التاريخ، أما كأسلوب حياة فقد انغمست يوميا في إقامة الحفلات والمهرجانات الصاخبة، التي لم تهتم يوما بترشيد تكاليفها أو الاستفسار عن فواتيرها، في الوقت الذي كان الشعب يعاني من أشد ويلات الجوع وشظف العيش وموجات سخط واسعة الانتشار بين الشعب، لكنها لم تكلف نفسها عناء الاستفسار عن ذلك، ولم يحدث مرة واحدة أن طافت بالأقاليم كي تتفهم احتياجات مواطنيها، أو أن تستقبل وافدا منهم في قصرها، وحين رأت ذات يوم جماهير من الشعب تتظاهر غاضبة حول القصر، سألت حارسها ببرود: ماذا يريد هؤلاء؟ فأجابها بأنهم مستاءون لأنهم لا يجدون الخبز، فردت ببرود الغارق في نزواته ودنياه الوردية: ولماذا لا يأكلون البسكويت؟
رغم استهجاني ـــ أثناء متابعة الفيلم ـــ لهمجية الغوغائيين في الهجوم على قصر فرساي وتكسيرهم كل التحف والمقتنيات الفنية النادرة من اللوحات والتحف، ورغم قساوة المنظر وهم يقتادون الملك وزوجته وطفليه إلى السجن لتنفيذ حكم الإعدام فيهم، إلا أنك لا تستغرب عدم تعاطفك مع مأساة ماري أنطوانيت، لأنك تجده جزاءً عادلا لها، فلقد اقتيدت في عربة لتطوف بها في شوارع باريس، بعد أن قصوا لها ذلك الشعر الجميل الذي كان يرتفع فوق رأسها لأقدام، وكان الشعب ـــ الذي لم تعره يوما التفاتة تعاطف ـــ يرميها بالقاذورات والأوساخ وقذع الشتائم، وحين مرت بقصر تريانون بدت منها نظرة تأمل حزينة ذات ابتسامة واهنة، فقد كان جنة عدن الخاصة بها، وهو بيت ريفي ضخم في أراضي فرساي، استقطبت له أعظم مصممي الحدائق، وكانت لها فيه جولة يومية تستمتع فيها برؤية أجمل الفلاحات الفرنسيات يجمعن حليب الأبقار المدللة التي تلتف على رقابها الأشرطة الحريرية في أوان خزفية مصنوعة في معامل الخزف الملكية، رغم أنها لم تغادر قصرها أو عالمها الحالم المغلف بالساتان مرة واحدة، للقيام بجولة تفقدية في شوراع باريس، ولذلك فقد صارت هدفا لسخط شعب بكامله.
إنها ليست نوعا نادرا تم انقراضه بإعدامها، فهناك الكثيرون على شاكلتها في يومنا هذا، وهم عينات من البشر تعيش بداخل فقاعاتها الخاصة، دون أن تكلف خاطرها أن تتفهم نفسية البشر الذين يعيشون حولها، ما يشكل خطرا على بقائهم، خاصة إذا كانوا في مناصب تستوجب الاهتمام بالآخرين، لأنه كلما علا منصبك ازداد احتياجك إلى اكتساب مهارات سبر نفوس من حولك وتفهم شخصياتهم واستشفاف احتياجاتهم والقدرة على كسب ولائهم، وإلا فأنت معرض لخطر السقوط عند أول اهتزاز.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي