لماذا العتب على البنوك الإسلامية؟
يشير عديد من التقارير الغربية إلى أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 كان لها أثر كبير في النمو غير المسبوق من حيث الطلب على الخدمات المصرفية الإسلامية. فمنهم من فسرها اجتماعيا بأن الشعور بالإسلام من قبل المسلمين أصبح يتزايد بعد تلك الأحداث، ومنهم من فسرها سياسياً، بأن الأموال العربية (أو الإسلامية بحكم أصحابها وليس تعاملاتها) التي كانت لدى الغرب وأمريكا بالتحديد لم تعد بمأمن من تهديد التجميد العشوائي الذي مارسته إدارة بوش، وبالتالي فإن تلك الأموال عادت إلى مكانها على شكل إسلامي. ومن التقارير ما جمع بين هذين العنصرين (السياسي والاجتماعي) وأضاف إليهما عنصرا اقتصاديا يتمثل في تنامي معدلات فوائض السيولة الناتجة عن الارتفاع المطرد في أسعار النفط خلال العقد الأخير من الزمن.
وفي حقيقة الأمر، أن الغرب ومن يحذو حذوهم التفسيري والإدراكي من بني جلدتنا، لم يدركوا حتى الآن الأسباب الكامنة وراء ازدياد الطلب على التمويل الإسلامي. وذلك لأن التفكير الغربي لا يستشعر أن لدى نماذجه أخطاء تستدعي التصحيح، إلا إذا أتى التنبيه من قبل شخص من غير المنظومة الغربية (وفقاً لمقالة علمية لشيرار وبلازو وهما مختصان بالاقتصاد السياسي).
إن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن التمويل الإسلامي نما تاريخياً باطراد منذ الألفية الجديدة لكنه لم ينمُ بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فهذه قصة وتلك قصة أخرى. الحقيقة أنه في بدايات الألفية الجديدة تراكم كثير من العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي وفرت مناخاً جيداً للطلب على البنوك الإسلامية. وكان الدافع الرئيس لهذا التراكم هو تبني غالبية الدول العربية والإسلامية سياسات النيوليبرالية (أو الليبرالية الجديدة) وهي عقيدة في الاقتصاد السياسي تدعو إلى إطلاق العنان للقطاع الخاص وتحرير الأسواق من القيود والتدخل الحكومي وفتح الاستثمارات الأجنبية على مصاريعها وتبني سياسات الخصخصة. وحيث إن غالبية الدول العربية والإسلامية كانت ترزح تحت أوضاع اقتصادية سيئة، فقد لجأت للاقتراض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين يعتبران بمثابة المحركات العالمية للسياسات النيوليبرالية الأمريكية. فالشرط الرئيس لإقراض الدول أن تخضع لبرامج من "الإصلاحات الاقتصادية" (كما تسميها المؤسستان الدوليتان) تنتهج من خلالها الدولة المقترضة سياسات النيوليبرالية.
لقد ازداد توجه الدول العربية نحو الليبرالية الجديدة منذ التسعينيات بعد انهيار الأب الروحي للمعسكر الاشتراكي، فأصبح العالم كله معولم على الطريقة الأمريكية في الحياة. وزاد انتهاج الدول العربية اعتناق المنهج الاقتصادي الجديد ورحبت به الشعوب على أمل أن يحدث فرقاً واضحا على مستوى معيشة المواطن البسيط الذي يشكل الغالبية العظمى من السكان. ومع مرور الزمن أصبحت المعالم الجديدة للاقتصادات العربية تأخذ في التبلور: تنامي سطوة القطاع الخاص، جشع التجار، سيطرة المستثمر الأجنبي على مقدرات الشعوب، زيادة الأسعار، فساد مالي وسياسي... إلخ. لقد أصبح المواطن العربي يعمل جل يومه كي يستطيع أن يؤمن لقمة العيش، فاندثر كثير من القيم الاجتماعية مثل الإخاء والمحبة والتكافل، وأصبح الأب لا يرى أولاده، بل لا يتمكن من أن يرى والديه ليكسب برهما. وأصبح الحصول على المال أمر ضروري لتلبية متطلبات الحياة. وكان لهذه التغييرات في نمط الحياة آثار بالغة على طريقة التفكير من حيث كسب المال وتولي الفرد مسؤولياته الاجتماعية في دول كان من المفترض أنها هي التي تتولى تلك المسؤوليات. وفي رحلة البحث عمن يحمل بعضاً من تلك المسؤوليات عن كاهل المواطن، ظهرت البنوك الإسلامية وتنامى الطلب عليها، ورافق ذلك أمل من العملاء المسلمين بأن "إسلامية" البنوك ستحقق لهم العدالة المالية المطلوبة. ورغم أن العميل للبنوك الإسلامية ربما يطالبها بأكثر مما يجب عليها فعله، إلا أن البنوك الإسلامية ظهرت بنسخة نيوليبرالية لا يهمها إلا تحقيق الربح (وربما الفاحش في بعض الأحيان) ولا شيء غير الربح. وهنا ظهرت فجوة بين ما يأمله العميل الإسلامي وما يقدمه البنك الإسلامي. وهذه الفجوة تقتضي أن نزجي رسائل عتاب للبنوك الإسلامية، مترافقة مع رسائل توعيه للعملاء من أجل الوصول إلى منطقة وسط بين ما هو مأمول وما هو مقدم من قبل البنوك الإسلامية.
النيوليبرالية والنظام المالي
من المعلوم تماماً أن أحد أهم أركان الرأسمالية بشكل عام، والنيوليبرالية كعقيدة بشكل خاص، هو تشكيل نظام مالي يسهل تحريك الأموال واستثمارها ولو بطريقة مصطنعة بعيداً عن الاقتصاد الحقيقي. بل إن (هارفي) مؤلف كتاب A Brief History of Neo-liberalism يعتقد أن مكونات النيوليبرالية انبثقت من حادثة إحجام البنوك عن إقراض ولاية نيويورك الأمريكية في الثمانينيات من القرن المنصرم، ما أدى إلى بروز كثير من الأمور التي تسمى الآن تسويق الاستثمار الأجنبي، لجعل مدينة نيويورك آنذلك تصبح شركة نيويورك New York Inc.
وتركز العقيدة النيوليبرالية على تخفيف القيود التشريعية على النظام المالي، وتشجيع المبادرات التشريعية الذاتية غير الملزمة على مستوى الصناعة، مع التركيز على التعاملات على مستوى العقود؛ ما أدى إلى ارتفاع تكلفة التعاملات (كل معاملة تحتاج إلى مراجعة من محام مختص)، كما أن النيوليبرالية أطلقت العنان لما تسميه الابتكار المالي (الهندسة المالية) من خلال المشتقات، فنجدها مميزة جداً في تنامي عدد التعاملات في المشتقات وأنواعها بأضعاف أضعاف ما كانت عليه فيما قبل النيوليبرالية؛ ما أدى إلى ازدياد الفارق بين النمو الاقتصادي الحقيقي والنمو في التعاملات المالية. يقول أحدهم متندراً: "لو أخذت حذاء الزيدي إلى سوق المشتقات يمكنني أن أجري عليه ابتكارات بمليارات الدولارات ليتداولها أغبى المستثمرين في العالم". وفي الحقيقة أن المستثمر ليس غبياً إلى هذا الحد، بل هو بحكم النيوليبرالية الذهنية المترسخة لديه: "طماع" إلى درجة الغباء، ولا أدل على ذلك من الاستثمارات الغبية التي ذهبت أدراج الرياح خلال الأزمة المالية العالمية. كما فتحت النيوليبرالية الآفاق أمام مكافآت المديرين الذين أصبحوا يبتكرون أخطر وأتفه الأدوات التي تدر دخلا للمؤسسة؛ فقط من أجل الحصول على المكافأة نهاية العام، بغض النظر عما يحصل للاقتصاد والمجتمع من آثار سلبية.
لماذا نمت البنوك الإسلامية بقوة بعد عام 2000؟
أذكر أننا كنا في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم نتندر على من يفتح حساباً مصرفياً في البنك، لأننا ببساطة كنا نرى أنه لا داعي للدخول في الحرام طالما أننا نستطيع أن نتدبر أمورنا بعيداً عنه. وكنا نحزن على أولئك (المتورطين) في التعامل مع البنوك وننظر إليهم بعين الشفقة: "مسكين ماخذ قرض ومتورط".
وفي ظل النيوليبرالية أصبح من لا يأخذ قرضا هو الشاذ، بل أصبح الحساب المصرفي أول الشروط التي يجب عليك أن تلبيها حتى تحصل على راتبك. لقد أضفت علينا النيوليبرالية كثيرا من المفاهيم الترفية المصطنعة التي لم تكن أصلا موجودة في مجتمعاتنا. كما أنها أسهمت في إحداث فجوة كبيرة بين طبقتين في المجتمع، طبقة الفقراء وطبقة الأغنياء، الأمر الذي جعل الفقير دائماً يفكر في تحسين وضعه أو تقليد الغني ولكن من خلال القروض (بشكل يشابه تماماً ما يسمى بالحلم الأمريكي). لقد أصبحت القروض جزءا لا يتجزأ من حياتنا المصطنعة. فانظروا وتأملوا الإعلانات التي تطل علينا بها البنوك بين الحين والآخر ضمن ما تسميه إبداعاً لتلبية احتياجاتنا (ملء جيوبهم).
ولما كان لزاماً على مختلف الفئات العاملة من الشعوب العربية أن تتعامل مع البنوك سواء كمودعين (لتحويل رواتبنا على أقل تقدير)، أو مقترضين لتمويل احتياجاتها الحقيقية والمصطنعة في ظل ظروف النيوليبرالية أنشأت الشعوب بحسها الإسلامي طلباً على المصارف الإسلامية. نعم الشعوب هي من أنشأ الطلب عليها وما زالت تعزز ذلك الطلب، وهم بغالبيتهم من البسطاء من أصحاب المداخيل البسيطة والمتوسطة، وليست حكوماتهم التي كانت أغلبيتها لا تعترف بالبنوك الإسلامية قبل عام 2000، أو قلة قليلة منها تشرع لها تشريعات خاصة في أفضل الأحوال. ومن هنا حضرت البنوك الإسلامية بقوة في عالمنا العربي حتى أصبحت تشكل توجها جاذباً لرجال الأعمال الذين لا يؤمنون بها حتى يركبوا الموجة ويلبوا طلبنا، بل إن البنوك الربوية العالمية فتحت لها فروعاً إسلامية في بلداننا (كرمال عيوننا!).
ومن جهة أخرى، هناك اعتقاد شعوري يعتري المواطن العربي المسلم عند خلقه الطلب على التمويل الإسلامي: إنه الشعور بأن "الإسلام" هو الذي سيقدم له حلولاً للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي خلقتها النيولويبرالية (مع التشديد على أن أغلبية الشعوب العربية لا تعرف معنى النيوليبرالية، بل هي تعيشها وتعيش آثارها وتعبر عنها بطرق مختلفة).
البنوك الإسلامية والنيوليبرالية الرأسمالية؟
تعــــــزز النيوليبرالـــيــــــة أجواء غير مسبوقة في حرية الأسواق، وهو ما يتم استغلاله بطرق لا أخلاقية من قبل القطاع الخاص. ولا أدل على "اللاأخلاقية" من ممارسات المؤسسات المالية الدولية الكبرى التي أدت إلى الأزمة المالية العالمية. ومن أهم البواعث على "اللاأخلاقية" هي مبادئ النيوليبرالية التي تحد من تدخل الحكومات في حالة الإساءة من قبل القطاع الخاص، وتنامي القوة السياسية للقطاع الخاص، بما يجعله قادرا على إحباط أي محاولة للتدخل الحكومي، وبالتالي تبقى "المصلحة الفردية" هي المحفز الرئيس للعمل. وهنا يطلق العنان للمصلحة الفردية كي تعمل فقط فيما يتناسب معها. فلو توافقت الأخلاق مع المصلحة الفردية كان بها، وإلا فالمصلحة تقتضي أن تحقق تلك المؤسسات الربح بأقل قدر ممكن من الالتزام بأي قيود. ولذلك ظهرت مبادرات حول مبادئ الاستثمار المسؤول، والحوكمة والمسؤولية الاجتماعية والبيئية، والتنمية المستدامة وغيرها. لكنها كلها تقع ضمن إطار المبادئ غير الملزمة أو التي تطبق بشكل اختياري من قبل القطاع الخاص حرصاً على إبقاء الأسواق حرة دون تدخل حكومي، وحرصاً على تلميع الصورة المشوهة للشركات الكبرى التي تنهب الثروات وتلوث البيئة.
أما على صعيد الصناعة المالية الإسلامية، فالتدخل الحكومي يكاد يكون معدوما، ولا سيما في مسألة العمل الشرعي. فالحكومات ـــ على ما يبدو ـــ لا تعير أية أهمية كي تتحقق من أن البنوك الإسلامية إسلامية بالفعل، بل هي تتحقق فقط وبشكل كبير من أن البنك الإسلامي يعمل بما يتوافق مع النظام الرأسمالي وتشرع عمله وتراقبه وفقاً لذلك فقط. أي أن الحكومات لها دور كبير في أن تجعل البنوك الإسلامية ملتزمة بمبادئ الرأسمالية، ولا يهمها إن كانت بالفعل ملتزمة بالمبادئ الإسلامية.
لقد ترك أمر التحقق من "إسلامية" البنوك الإسلامية إلى ما يعرف بالتنظيم الذاتي للصناعة Self-regulation . أي أنها هي التي تنظم نفسها من الناحية الشرعية بنفسها استناداً إلى أن الالتزام الشرعي عمل أخلاقي لا يقنن شأنه شأن المسؤولية الاجتماعية، مع العلم أن الالتزام الشرعي أمر مقنن في الشريعة الغراء. وبناء عليه جاءت المعايير الشرعية الصادرة عن المجلس الشرعي التابع لـ "أيوفي". لكن بقيت هذه المعايير من دون حسيب أو رقيب على مدى الالتزام بها. أي بمعنى آخر، من الذي يطمئن عملاء البنوك الإسلامية عن مدى "إسلامية" تلك البنوك. بل إن هناك كثيرا من الشواهد تدل على أن المعايير الشرعية لـ "أيوفي" يتم تجاهلها من قبل الشرعيين إذا ما تعارضت مع أسلوب وسير عمل البنوك، وهذا بحد ذاته سلوك رأسمالي نيوليبرالي يسعى فقط لتحقيق المصلحة الفردية للمؤسسة.
وعندما نتنازل لنقبل بأن المؤسسات المالية الإسلامية أخلاقية فقط وعليها أن تراقب أخلاقياتها الشرعية بنفسها، نجد أن هناك كثيرا من سلوكيات تلك المؤسسات غير أخلاقية .. فقد كشفت الأزمة المالية عن كثير من التجاوزات من قبل المديرين (تمويلات من تحت الطاولة، تعارض في المصالح، سوء إدارة، استغلال غير مبرر للأموال، استئجار طائرات خاصة، بل حتى الاختلاس في بعض الأحيان). وعند سؤالنا للمشايخ: لماذا حصل هذا في مؤسساتكم؟ يقولون لنا: الرقابة على هذه الأمور ليست من اختصاصنا. نعم في الحقيقة هي ليست من اختصاصهم، في ضوء الوضع الراهن الذي يحصر اختصاصهم في مراجعة العقود والرقابة على تنفيذها (إن تمت الرقابة). لكن هذا لا يعطي العميل المسلم الجواب عن سؤاله: لماذا تصرفت البنوك الإسلامية بطريقة غير إسلامية، أو لماذا لم تختلف البنوك الإسلامية عن نظيراتها التقليدية في زمن النيوليبرالية؟ ومن المسؤول عن رقابة مثل تلك التصرفات؟ هذه الأسئلة تبقى مفتوحة من دون إجابات.
من جهة أخرى، فإن النيوليبرالية تدعو إلى التركيز على عقود التعاملات بدلا من التركيز على التشريعات لتنظيم الأعمال. وهذا بحد ذاته يفرض تكاليف إضافية على رسوم المعاملات من حيث المراجعات القانونية لتلك العقود التي تضاعف عددها مئات المرات عما كانت عليه في عصر ما قبل النيوليبرالية.
وفي حالة الصناعة المالية الإسلامية، نجد بنوكنا ومؤسساتنا تنتهج النهج نفسه: التركيز على العقود والتقليل من القيود. فكل معاملة بعقد، وكل عقد له ملابساته الخاصة، وكل عقد يحتاج إلى مصادقة الهيئة الشرعية قبل الإبرام. وكل عقد له تكاليف إضافية ناتجة عن المراجعة الشرعية. وعندما تتم المطالبة بتنميط العقود يهب بعض المستنفعين للذود عن عدم التنميط، لأنه ببساطة يتعارض مع مصالح جيوبهم حتى لو أثرت في تكلفة المعاملة على العميل النهائي.
وتركز النيوليبرالية على الابتكار في العقود المالية إلى درجة جعلها مصطنعة أكثر مما هي حقيقية. أي أنها تخلق فارقا كبيرا بين أحجام تعاملاتها وبين النمو الاقتصادي الحقيقي (وهذا من أهم أسباب الأزمة المالية العالمية). كما أن تلك العقود تركز على مسألة نقل المخاطر بطرق غير عادلة إلى أطراف أخرى في السوق، بما يؤدي إلى حالات من عدم الاتزان بين الرابحين (وهم قلة) والخاسرين (وهم الأغلبية).
أما الابتكار في الصناعة المالية الإسلامية أصبح ابتكارا على مستوى العقود فقط بما يضمن الالتفاف على تقليل المخاطر وتعظيم الأرباح ولكن بأسماء إسلامية. فعقد الوكالة بالاستثمار يحمل اسماً غاية في الرمزية (وكالة واستثمار = تفويض بالإعمار)، لكنه في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون عقد تمويل بحت يشوبه كثير من شبهات الربا، بل إنه يحول المستثمر إلى دائن والوكيل إلى مدين بحيل يرفضها العقل المسلم البسيط. ومن هنا أصبح التركيز على العقود والمخارج الشرعية فيها أهم أعمال الخبراء الشرعيين، كي تصبح المؤسسات المالية الإسلامية نيوليبرالية أكثر من غيرها. بل إن أحجاماً كثيرة من تلك العقود لم تكن ترتبط بنشاط اقتصادي حقيقي يخدم التنمية.
وفي ضوء النيوليبرالية التي تعزز السلوك الاستهلاكي الترفي للمجتمعات، تجد البنوك في ذلك سوقاً خصبة لتشجيع التمويل الترفي للأفراد، وتحرص على اقتناء كل عميل لها بطاقة ائتمان، بل إن الحصول على القرض أصبح بسرعة رمشة العين.
وهنا نجد البنوك الإسلامية تمشي بالخطى نفسها، تسعى للتمويل الترفي الاستهلاكي، وتمنح بطاقات ائتمان للقاصي والداني، بل تغالي في ابتكارات العقود حتى تقحم مفهوم التورق في كل عمل من أعمالها لأجل تحقيق مثل تلك التمويلات، مع إلقاء الجزء الكبير من المخاطر على كاهل أطراف أخرى. حتى أن البنوك الإسلامية كانت تتنافس فيما بينها لتمويل العطور والبخور إلى ما قبل الأزمة بدلاً من تمويل المشروعات الصغيرة.
لماذا نعتب على البنوك الإسلامية؟
علينا أن نجمع على حقيقة مستحقة للبنوك الإسلامية وهي أنها مؤسسات ربحية وغير خيرية، لكننا نريدها ربحية وغير نيوليبرالية. فكيف نصل إلى ذلك مع إدراكنا أننا في عصر عولمة النيوليبرالية صارت البنوك الإسلامية جزءاً منها أو صورة لها.
لقد رفعت البنوك المتوافقة مع الشريعة شعار "الإسلام" في زمن العلمانية الاقتصادية .. وهو شعار تحلم به الشعوب العربية المسلمة لأنه يعيش في ضمائرها ومتأصل في فطرتها. لكن على ما يبدو أن الشعوب اصطدمت بواقع مهم مفاده أن طرق المعاملات والسلوكيات التي تنتهجها البنوك كي تكون "إسلامية"، لم ترق بعد إلى مستوى تحقيق طموحات الشعوب المسلمة، أو بمعنى آخر: أن كلمة "إسلامية" الموجودة على بروشورات وأسماء وأوراق وتعاملات البنوك لا تساوي كلمة "إسلامية" التي تعيش في ضمائر الشعوب.
وما بين دلالات "الإسلامية" لدى البنوك واستحقاقات "الإسلامية" لدى الشعوب هناك فجوة لا بد من ملئها حتى تتمكن الصناعة المالية الإسلامية من المضي في نموها. لكن ملء هذه الفجوة لا يمكن أن يكون على حساب إسقاط الصناعة المالية الإسلامية كما يدعو البعض، بل عن طريق تجسير المفاهيم للوصول إلى متطلبات واستحقاقات شعار "الإسلامية" الذي تحمله مؤسسات الصناعة.
ومن المعلوم أن تجسير المفاهيم لا يأتي إلا من جراء تفاعل حقيقي ومثمر لكافة الأطراف ذات العلاقة بالصناعة، يضع فيه الجميع المصالح الفردية، ويخطط فيه الجميع لمصلحة عامة تضع نصب أعينها أن الكل بحاجة للكل كي يتم إعمار الأرض وتحقيق التنمية المنشودة .
(يتبع في العدد القادم)