إطفاء حرائق جدة ليس بإشعالها بمزيد من المال
ستأتي أزمة وستذهب أخرى ولن تتغير سوى نوعية الضجيج ما دمنا نواصل مسيرة التعامي عن بتر الداء. الداء ليس في المال، فما ينفق جدير ''نصفه'' بإقامة دول، دع عنك مشاريع في مدينة. الداء معروف من زمن، فالكل يعرف عن أساطير الفساد المستشرية في بعض المشاريع أو بعض الجهات، ولا نعرف ولم نقرأ عن عقوبة معلنة للمتورطين في مشاريع الموت. وما دام الفسدة في حل مما يعملون، فكل الأموال التي ستصرف اليوم وغدا لا يوجد فيها حافز لإنجاز شيء ذي قيمة, وبالتالي فكلي أمل ألا يتم اعتماد أي مبلغ مالي لأي مشروع جديد لمعالجة مشكلات الصرف الصحي في جدة حتى نعالج المرض.
لو أنك صاحب شركة مقاولات ذو ضمير لين، فما الحوافز التي تجبرك على تنفيذ أي مشروع بجودة عالية؟ تسترجع الماضي، في لحظة حساب نفسية صريحة، فلا تجد إلا الورد أو النسيان أو روح القانون في حق كل مخالف أو مسيء. فهل تستعيذ من الشيطان وتقرر أن تكون عكس السابقين؟ أم تعزم الأمر وتقرر أن تسلك مسالك الأولين؟ بحسبة رقمية، إن فعلت ما فعله السلف، فأرباحك ستكون خيالية وربما لن تحتاج مرة أخرى إلى وجع رأس عالم الأعمال كله، وتبيع شركتك أو تتبرع بها لأعمال خيرية لا تكلف بضعة آلاف، وحملة إعلامية تلميعية مع ورقة عمل أو مقالة عن الفساد تكفي لمنحك وهج المواطن الشريف لإحكام ''القفلة''. وإن حدث وأمطرت على جدة مرة أخرى، فما الذي يجعلك مختلفا عن البقية؟ البقية نفذوا مشاريع كرتونية ورقية ولم يحفروا الأرض، وبعضهم حفرها وردمها مرة أخرى دون أن يمد حتى لو حديدة صدئة وغنموا المليارات رغم ذهاب الأرواح. أما إن استغفلك الضمير الحي ونفذت المشروع بذمة فوق المتوسطة فالأرباح ستنخفض بشكل كبير مقارنة بالسيناريو المعاكس, بمعنى آخر، هناك جزرة لذيذة جداً ولا توجد عصا في المعادلة.
سياسة إطفاء الحرائق التي تجتاحنا مع كل كارثة تهطل علينا عفا عليها الزمن، وآن أن نراجع كشوف الحسابات بعيون مختلفة. إن إطفاء حريق جدة بمزيد من المليارات امتداد لاستنزاف طويل المدى آن الوقت لإيقافه. فليست المشكلة في وفرة المال ـــ فقط ـــ حتى نكثفه. فما أنفق على المشاريع المتهمة اليوم ضخم جدا والنتيجة ــ أرواح بريئة ـــ نراها اليوم ماثلة بكل تجل ودون خداع بصري يراه كل ذي بصيرة. وعليه، فمزيد من المال لا يكفي، بل حقيقة إن مزيدا من المال إمعان في التعامي عن معالجة المشكلة الأساسية. فلو ركبت سيارة لنقلك من الرياض إلى جدة وأصر السائق على القيادة شمالا، فكل لتر بنزين إضافي لا يعني أنك ستصل إلى جدة, بل إمعان في الضياع ما دامت الوجهة خاطئة.
فتشوا الحسابات البنكية، انكشوا تاريخ الوظائف الحساسة والأثرياء الحكوميين، انفضوا غبار الملفات القديمة، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، إن أردتم العلاج. بكل اختصار، علاج كارثة جدة نقطة الصفر فيه هي معاقبة المتورطين في مشاريعها الوهمية القديمة بكل شفافية. بعد هذا، يأتي دور المال كي نصل إلى ساحل الأمان.