خريطة طريق سعودية للتحول إلى الاقتصاد المعرفي
منذ حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، والعالم المتقدم بدأ يشهد تحولات جذرية في التعامل مع معطيات ومفهوم الاقتصاد، وبالذات فيما يتعلق بإدارة الموارد ورأس المال سواء كان رأس المال البشري أم المادي، حيث بدأ العالم المتقدم اليوم يتوجه وبقوة نحو تطبيق ما يعرف بمفهوم الاقتصاد المعرفي Knowledge Based Economy، الذي يعتمد إلى حد كبير في إدارة الموارد الاقتصادية وتشغيلها على المعرفة الفنية والإبداع والذكاء والمعلوماتية.
إن تحول العالم المتقدم إلى استخدام تطبيقات الاقتصاد المعرفي المختلفة في الإنتاج وفي أسلوب إدارة الموارد الاقتصادية، قلل إلى حد كبير من الحاجة إلى الاعتماد على الاقتصاد التقليدي في إدارة شؤون الاقتصاد، الذي كان يعتمد في السابق بشكل كبير على توافر الأرض، والعمالة، ورأس المال، حيث بدأ الآن التوجه وبقوة نحو استخدام العقل والفكر والذكاء المتجسد في برامج الكمبيوتر المختلفة والتكنولوجيا والثورة المعلوماتية، في سبيل الارتقاء بالعملية الإنتاجية وفي إدارة الموارد الاقتصادية، إذ تشير المعلومات، إلى أن اقتصادات المعرفة في الوقت الحاضر، تستأثر بنحو 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتنمو بوتيرة مرتفعة تقدر بنحو 10 في المائة سنوياً، وأنه على سبيل المثال نحو 50 في المائة من نمو الإنتاجية في الاتحاد الأوروبي، هو نتاج وحاصل استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
السعودية منذ وقت قريب جداً قياساً بعمر الزمن، بدأت تشهد حراكاً اقتصادياً ملحوظاً للتحول إلى الاقتصاد المعرفي، لكونه يعد اليوم الاقتصاد الأفضل على مستوى العالم، وبالذات في تحقيقه لقيمة مضافة فعلية للاقتصاد العالمي، ولا سيما في ظل العولمة وانفتاح الأسواق والاقتصادات العالمية على بعضها بعضا، كما أن عضوية المملكة في أكثر من منظمة اقتصادية وتجارية عالمية، مثل منظمة التجارة العالمية WTO وغيرها، سيفرض عليها آجلاً أم عاجلاً التحول بالكامل إلى الاقتصاد المعرفي، وبالذات في ظل ثورة المعلومات العالمية، التي أصبحت تلعب دوراً مهما وأساسيا سواء كان ذلك على مستوى حياتنا اليومية أم على مستوى الاقتصاد وإدارة الموارد، إذ تشير الإحصائيات، إلى أن أكثر من 70 في المائة من العمالة اليوم في الاقتصادات المتقدمة، أصبحت عمالة أو عمال معلومات ومعرفة Knowledge Based Workers، ومن هذا المنطلق وكما أسلفت كان لازما على المملكة أن تتواكب مع هذا التطور والفكر الاقتصادي الجديد.
ويأتي تنظيم جامعة الملك سعود للمنتدى العالمي لريادة الأعمال والاقتصاد المعرفي، والذي انعقد خلال الفترة 16 ـــ 18 كانون الثاني (يناير) الجاري، برعاية نائب خادم الحرمين الشريفين، ضمن الخطوات العريضة والواسعة والطموحة في المملكة، الرامية إلى الارتقاء بأداء الاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة بمفهومها الواسع والشامل، بما في ذلك تحويل الاقتصاد الوطني، من اقتصاد تقليدي، إلى اقتصاد معرفي، يعتمد إلى حد كبير في إدارة الموارد الاقتصادية، على استخدام تطبيقات الاقتصاد المعرفي المتعددة، ولا سيما أن المنتدى يهدف إلى تحديد متطلبات وحوافز بناء الاقتصاد المعرفي، بما في ذلك تحديد الآليات التي من الممكن تنفيذها في السعودية لتحقيق ذلك التحول المنشود.
جدير بالذكر، أن جامعة الملك سعود، قد أعلنت منذ نحو أربع سنوات تبنيها رؤية طموحة نحو بناء مجتمع معرفي، من خلال بناء شراكات مع عدد من مؤسسات المجتمع، ووضعت تبعاً لذلك خطة عمل، تضمنت عددا من البرامج والمبادرات الجديدة لخدمة ذلك التوجه، حيث على سبيل المثال لا الحصر، من بين المبادرات، التي أطلقتها الجامعة في ذلك الخصوص، (معهد الملك عبد الله لتقنية النانو، ومعهد الأمير سلطان للتقنيات المتقدمة، ومركز الأمير نايف للعلوم الصحية، ومركز الأمير سلمان لريادة الأعمال، هذا إضافة إلى إنشاء برنامج لكراسي البحث العلمي، وبرنامج للملكية الفكرية.
مدينة المعرفة الاقتصادية في المدينة المنورة، تعد من بين النماذج والأفكار السعودية الرائعة، للتوجه نحو بناء وتأسيس قاعدة للتنمية الاقتصادية المبنية على الصناعة المعرفية، ولا سيما أن من بين أبرز أهدافها، السعي إلى تأسيس بنية تحتية تستهدف تحفيز الإنتاج إلى الحد الأقصى وخلق بيئة متطورة، تعمل على تطوير الإبداع الإنساني، إضافة إلى إيجاد مجتمع قائم على الصناعة المعرفية، ذي قدرة اقتصادية على النمو والتطور في المدينة المنورة.
دون أدني شك أن السعودية، تبذل جهودا كبيرة، ملموسة وملحوظة في الاتجاه الصحيح، لتحويل المجتمع السعودي والاقتصاد الوطني، إلى مجتمع واقتصاد معرفة، ولكن سيظل نجاح هذه الجهود وذلك التحول، أمراً مرهوناً بقدرة المملكة، على تهيئة البيئة والمناخ المعرفي المناسب لبلوغ وتحقيق الأهداف المنشودة من وراء ذلك التحول، ولا سيما أن عملية التحول إلى الاقتصاد المعرفي، تتطلب وفقاً لرأي المختصين والخبراء في مجال الاقتصاد المعرفي، ضرورة الإلمام الكامل والتام بتطبيقات التكنولوجيا الجديدة، ووضع التشريعات والأنظمة والقوانين، إضافة إلى ضرورة تحرير السياسات والأنظمة التجارية والاستثمارية والاقتصادية، وتلاشي الحدود بين البلدان، حيث يسمح ذلك بفسح المجال أمام جميع أنواع الاستثمار الأجنبي المباشر.
من بين متطلبات التحول أيضاً أهمية تكييف ثورة المعرفة مع الاحتياجات المحلية، وتوفير الوظائف المرتبطة بتطبيقات الاقتصاد المعرفي، وإعداد الكوادر الوطنية اللازمة لقيادة هذا التحول في المستقبل، علاوة على ضرورة زيادة القدرة التنافسية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، لكونها لاعبا رئيسا ومهما في عملية التحول، والله من وراء القصد.