هل الإبداع يقتصر على مهنة معينة أو على أفراد بعينهم؟!

في مجمل ردها على المقال السابق، كتبت الدكتورة الجوهرة بنت سعود حول المهندس الشعبي (الكاوبوي), الذي يمارس من قبل الأطباء وغيرهم في مهنة التصميم والتخطيط والهندسة, حتى الإشراف على التنفيذ, وتساءلت عن ذلك بقولها هل الإبداع يقتصر على مهنة معينة أو على أفراد بعينهم؟! ثم أضافت ما الذي يمنع أن يكون الطبيب ذا ذوق خاص في التصميم، ولديه رؤية خاصة كيف يريد مسكنه، وقد تكون لديه هوايات خاصة وذوق فني في انتقاء الألوان ومزجها!
ولأهمية هذا الموضوع وضعت هذا التساؤل عنوانا لهذه المقالة, ذلك أن هناك إشكالية في تحديد الحدود لكل مهنة, وهل يمكن لنا أن ندع المهن دون ضوابط وتنظيم؟ ومن الذي يمكن أن يحق له أن يتدخل في مهنة ما؟ وهل المهن مشرعة للدخول فيها متى ما أراد المرء؟ وكيف السبيل إلى معرفة الإبداع قبل البدء؟ وكيف نتأكد من أنه سيبدع أم سيأتي بالعجب؟ مع أنني في البداية أوضح أن الإبداع لا يقتصر على مهنة معينة ولا على أشخاص بعينهم.
إن زملاء المهنة في الهندسة يشكون دوما التدخل في مهنتهم, وغير أن بعض مجالات الهندسة تحتاج إلى معادلات كالهندسة الكهربائية أو الميكانيكية أو المدنية, فمثل هذه العلوم في مجملها تعتمد على الحسابات الدقيقة للخروج بتصميم معين, فالكاوبوي يهرب من الإفتاء فيها إلى ما هو أخف، ولذا نجد التدخلات فيها محدودة جدا، أما هندسة العمارة وما تحويه من تصميم وتخطيط وتصميم داخلي وتنسيق، فتعتمد على الحس والذوق والإبداع في استخراج التصميم, لكنها بكل تأكيد لها حساباتها الدقيقة في الفراغ المعماري, ولأن مجمل التدخلات من قبل الكاوبوي هو في مجال العمارة، فإني أود أن أوضح النقاط التالية:
1- أن العمارة فن وظيفي, أي أنها فن من زاوية معينة ومن زاوية أخرى تؤدي وظيفة, ولأجل كونها فنا فهي تفتح المجال لمحبي الفنون ومتذوقيها, ولا ضير في ذلك ألبتة, لكن يجب أن يعرف أن هذا الفن له أصوله وله أسسه التي يبنى عليها, وهي تدرس في الجامعات ويمكن أن يعرفها المرء بشكل متقن بعدما يمارس هذا الفن بشكل أو بآخر, ولعل ما تقصده الدكتورة في هذا المجال هو أن الطبيب وغيره قد يكون له ذوق خاص ومعرفة بالأشياء، وتكون لديه هوايات خاصة وذوق فني في انتقاء الألوان ومزجها.
2- تنقسم المباني إلى قسمين عامة وخاصة, والذي يقصد في الحديث السابق، وهذا الحديث هو المباني العامة, أي التي تخص عامة الناس كالمطارات والمستشفيات، والمباني الأخرى التي تتعلق بالخدمات العامة, وهي التي لا يمكن أن ندعها لأمزجة الأشخاص غير المتخصصين (الكاوبوي) حتى لو كنا متأكدين من أنهم يمتلكون أذواقا, إذ إن المسألة تتعلق بعموم الناس لا بخصوصهم, فالتصميم المعماري له (كود) ينطلق منه, والألوان لها اعتباراتها العامة، وهناك اشتراطات أخرى للبيئة والموقع، ولا يمكن أن تترك هذه الأمور لغير المتخصصين, بل حفاظا على أرواح الناس يجب أن يعاقب كل من يتدخل في مهنة أخرى, وهو ليس أهلا لها, ولا لبس في ذلك, إذ هي كغيرها من المهن كالطب والمحاماة وغيرهما.
3 - أما المباني الخاصة التي تخص أفرادا معينين كالمسكن فلست أقصدها, إذ الناس فيها مشارب, لكن أعتقد أن تركها لأمزجة الناس ستخرج صنوفا من المساكن تحار فيمن يسكنها، وهناك شيئان اثنان في المسكن, أحدهما تصميم الفراغات الداخلية, والآخر التصميم الخارجي, أي الواجهات, وأعتقد أن التصميم الداخلي هو شأن الناس ومتطلباتهم، ويراعى فيها جانب السلامة والأمان والصحة, والمفترض أن ينقل المرء ما يحتاج إليه إلى مصمم ليخرج له فكرة إبداعية، أما إذا رغب في أن يكون التصميم من مزاجه (كاوبوي) فليس هناك أحد سيمنعه, لكن الملامة عليه إن لم يعجبه بعد البناء والعناء، أما التصميم الخارجي, وهو الواجهة, فإنه لا بد للمسكن أن يحترم البيئة الخارجية وألا يشذ عن مجمل المساكن في الحي بحيث يكون النسيج العمراني متكاملا ومتلاحما، مع أني أدرك أننا حين نصرف مبالغ على الأرض والمواد، فإن أقل تكلفة من هذا وذاك, هو أن يستعين المرء بمن ينسق له الألوان ويصمم له التصميم الداخلي, وأما التصميم المعماري فإني أكرر أن ذلك من أكثر المشكلات التي تواجه الناس اليوم في منازلهم الخاصة بهدرهم مبالغ طائلة نظير أن تكون الفراغات على أمزجتهم, ولو تمت مراجعتها من قبل معماريين، فإنه سوف يدرك أننا كلما تعلمنا أكثر احتجنا أقل.
4- وهو بيت القصيد أن الإبداع يتطلب تفرغا تاما للعمل لهذا الإبداع, وهذا لا يتأتى في هذا الزمن الذي هو زمن التخصص، فكيف إذن نطلب من الطبيب أن يبدع في العمارة, ونطلب من المعماري أن يبدع في الطب, إذ الطبيعي أن يبدع كل واحد في مجاله وفي مهنته, ولا ضير أن تكون للمرء هواية في رسم لوحة أو نحت مجسم أو غيره, لكن العمارة هي ــ كما أسلفت ــ فن ووظيفة, وهي مهنة شريفة أتمنى ألا يعتدي عليها أي كاوبوي في هذا الزمن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي