اقتصاديات الحلال: مفهوم الاختراق الغربي الجديد

منذ بدايات الألفية الجديدة تهافت الجميع على التمويل الإسلامي نظراً للنمو الملحوظ في تلك الصناعة .. فأصبح الأسمر والأشقر والأكحل والأصفر يحاول الولوج إلى هذه الصناعة من أجل تحقيق مكاسب من جملة المكاسب التي حققتها الصناعة إلى ما قبل الربع الثالث من عام 2008 عندما ضربت الأزمة الجميع.

ويدرك المحللون الغربيون أن كثيرا من مؤسسات التمويل الإسلامي أصيبت بالآثار الارتدادية للأزمة من خلال تباطؤ نمو الصناعة المالية الإسلامية، وتسجيل مخصصات عالية جداً لمواجهة الديون المشكوك في تحصيلها ومواجهة تدني القيم السوقية للاستثمارات العقارية والمالية التي كانت تحتويها محافظ الاستثمار والتمويل الإسلامية، حتى أن تلك المخصصات نمت بواقع 300 في المئة في البنوك الإسلامية التجارية في الخليج العربي مقابل نصف هذه النسبة لنظيراتها التقليدية.

ويدرك المحللون الغربيون أن المستثمر الإسلامي أصبح أكثر حذراً وتعقيداً بعد الأزمة المالية العالمية، وأن عمليات جذب الأموال الإسلامية لم تعد أمراً سهلاً حتى لو تم تسهيل التشريعات.

كما يدرك المحللون الغربيون أن التمويل الإسلامي يعاني من نقد (ولا أقول انتقاد) متزايد من قبل المسلمين أنفسهم، وذلك في الجوانب الشرعية والتطبيقية في أغلبية المؤسسات المالية الإسلامية التي كشفت الأزمة عن كثير من عوراتها في الممارسات والحوكمة والتطبيقات.

ويدرك المحللون الغربيون أيضاً أن الأزمة ضربت اقتصادياته بطريقة مروعة، حتى أن المتفائل منهم يرى أن لا نهوض من تلك الأزمة إلا بعد عشر سنوات على الأقل ضمن ظروف سياسية واقتصادية مناسبة.

ويدرك صناع القرار في الغرب أن الحلول المثلى في حالات الركود التي يشهدونها تكمن في التوجه نحو تحقيق اختراقات في الأسواق النامية والأقل نموا،ً نظرا لما توفره تلك الأسواق من مزايا في الموارد البشرية التي توفر أسواقاً رحبة للمنتجات والخدمات كما توفر فرصاً نادرة في استخراج المواد الخام والمواد الأساسية التي تعتبر العجلة المحركة لبقاء الاقتصادات الغربية عاملة وفاعلة.

ويدرك الغرب أيضاً أن الدول النامية مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا وعديد من دول آسيا والباسيفيك أصبحت تحتل مراكز متقدمة في مجال التجارة العالمية وتنافس بضراوة المنتجات الغربية، ليس في مجال الصناعات الخفيفة وحسب بل وحتى الثقيلة منها.
ويدرك الغرب أن عدد المسلمين في العالم يتنامى بشكل مطرد وقد يصل بعد بضعة عقود إلى ما يناهز ثلث سكان العالم.

وفي ضوء تلك المعطيات أصبح عديد من مراكز البحث ووكالات التنمية الغربية يضع عنواناً جديداً للمرحلة المقبلة في التعامل مع العالم الإسلامي. هذا العنوان يتجاوز التمويل الإسلامي ويصل إلى كافة القطاعات الاقتصادية ضمن ما يعرف بـ "اقتصاديات الحلال". فهم مهتمون الآن بمعرفة مواصفات الحلال والحرام في المنتجات التي تقدم للعالم الإسلامي .. هل يلبس الرجل الحرير؟ ما مقدار نسبة الكحول المباح استخدامها في منتجات العناية بالبشرة؟ هل يشترط الذبح من قبل مسلم من أجل إباحة أكل لحم الغنم أو البقر؟ كيف أبدأ حواري مع رجل أعمال مسلم؟ هل تجوز مصافحة سيدة الأعمال؟ ... إلى غيرها من الأسئلة التي قد يظن بعض المسلمين أنها ساذجة إلا أنها تعطي مؤشرات غاية في الأهمية عن المرحلة المقبلة.

ربما يظن البعض أنني من المعارضين للتعاون الاقتصادي مع الغرب .. وهذا ظن غير صحيح. فنحن نعيش في زمن الكل فيه يحتاج إلى الكل .. لكن ما أرمي إليه هو الاستفادة من التخطيط الاستراتيجي لدى الغرب والتعلم منه من أجل مواجهة المرحلة المقبلة بخطط وتكتيكات تفيدنا نحن وتعزز من اقتصادياتنا.. فالمرحلة التي يمر بها الاقتصاد العالمي توفر فرصا غير مسبوقة للعالم الإسلامي كي ينهض من جديد إذا ما قرر ذلك .. وإذا ما تم التخطيط بعناية فائقة من أجل خدمة المصالح العليا للدول الإسلامية وليس المصالح الفردية هنا وهناك.

فالمنتج الذي سيحمل مواصفة "الحلال" القادم من الغرب أو من الشرق، يمكن تصنيعه من قبل أهل الحلال أنفسهم الذين هم أدرى بتفاصيله .. ولنا هنا تجربة جيدة مع منتجات التمويل الإسلامي التي قدمت إلينا بعقود غربية تمت هيكلتها بشكل شرعي فأصبحت مثل الكائن الهجين المستنسخ. ثم إن المنتج الذي يحمل مواصفات الحلال، الذي يعجز أهل الحلال عن تصنيعه، بإمكانهم الآن أن يحصلوا على حقوق تصنيعه أو تصنيع غيره من خلال الفرانشايز ـــ على سبيل المثال، أو من خلال فتح فروع للمصانع الغربية في الدول الإسلامية حتى يكون فيها أهلها هم المنتجون والمستهلكون ولا ضير من أن يحصل الغرب في هذه الحالات على ما يريد من مال، لكن يبقى هذا ضمن فائدتنا نحن أولاً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي