لماذا يحرقون كاميرات «ساهر»؟
الشارع في كل مكان في العالم نموذج للنظام أو الفوضى، يرسم الشارع بأشخاصه ومركباته ومحاله خطا فاصلا بين السلوك المتحضر والسلوك الآخر. الشارع يعكس سلوكيات الناس في كل شيء، يكفي أن تسير في شارع أي مدينة في العالم ليتولد لديك انطباع عن هذا الشعب أو ذاك. هو ميدان حي ومباشر لأسلوب تصرف الناس تجاه قواعد النظام وتجاه بعضهم بعضا. الشارع صورة مصغرة لثقافة الشعوب الحقيقية بعيدا عما تقرأه في الكتب أو تدعيه النظريات الاجتماعية. ولا شك أن النظام المروري أو الفوضى المرورية أبرز ملامح هذا النموذج الحي؛ فأي صورة نراها لأنفسنا وحوادث المرور لدينا من أعلى المعدلات عالميا، وتلتهم آلاف الأنفس كل عام؟!
لم نختلف أبدا على أننا نعيش معاناة سلوكية في الجانب المروري، لكن جدلنا لم يتوقف حول نظام آلي يستهدف ضبط صراع دائم بين نزوات السلوك وقواعد النظام. لم يغير ''نظام ساهر'' مادة واحدة في نظام المرور بالمعنى القانوني للكلمة؛ لكنه حاول قراءة سلوكنا المروري ولوحات المرور الإرشادية على أرض الواقع. حاول كشف تراكمات سنين من العبث والتجاوز؛ فكان جزاء عينه الساهرة الاعتداء في صور متعددة حتى كان آخرها حرق كاميراته؛ طبقا لما نشرته جريدة ''الرياض'' يوم الجمعة الماضي عن تعرض إحدى كاميرات نظام ساهر للحرق المتعمد من قبل شخصين ملثمين في المدينة المنورة.
نظام ساهر قدم تجربة حية حول البون الشاسع بين الأنظمة بالمعنى القانوني وواقع تطبيق هذه الأنظمة. لم يتغير شيء في أحكام نظام المرور؛ وإنما الذي تغير هو التطبيق. بمعنى آخر المشروع ليس رقيبا على السائقين فقط؛ بل هو أيضا أداة لقياس أداء رجال المرور في تطبيق أحكام نظام المرور. أظهر نظام ساهر ضعف تطبيق أحكام نظام المرور، ويظهر ذلك جليا في مراحل تطبيقه على بعض المخالفات وكأنها تسن لأول مرة مع أن نظام المرور ينص عليها، غير أنها ظلت حبيسة مواد نظام المرور حتى وضعها نظام ساهر موضع التنفيذ. وقياسا على ذلك؛ ربما نحتاج إلى عشرات ''الساهرين'' في كثير من المجالات حتى تتحول بعض النصوص النظامية من قوالبها القانونية إلى ميدان تطبيقها.
كل الانتقادات التي وجهت لنظام ساهر هي في نظري إيجابية؛ لأنها فرصة للقائمين على المشروع لتلافي الأخطاء وتعميق نشر الوعي عن المشروع. لا يشكل نظام الضبط الآلي للمخالفات المرورية – حسب الموقع الرسمي للمشروع - إلا واحدا من أنظمة المشروع الستة التي تشمل: تشغيل وإدارة الحركة المرورية، وتتبع مركبات المرور، والتعرف على لوحات المركبات، واللوحات الإرشادية الإلكترونية على الطرق، وكاميرات مراقبة الحركة المرورية، غير أنه لم يظهر النظام للناس إلا في صورة واحدة هي ضبط المخالفات؛ فأين بقية أنظمته عند توعية الناس وتعريفهم بالمشروع؟!
''ساهر'' بمفهومه الشامل لا يجب أن يكون مفهوما تقنيا في اتجاه واحد؛ بل يجب أن يكون أداة تقنية تعكس أيضا رجل المرور كنموذج للانضباط المروري. الحلول الإلكترونية ربما تولد الخوف من تجاوز النظام، لكنها لا تحفز على احترام النظام إلا إذا صاحبها تطبيقات حية من قبل القائمين على هذه الأنظمة المرورية. لا شك أن التزام رجال المرور والدوريات الأمنية وغيرهم من رجال السلطة العامة بكافة الضوابط المرورية يعزز لدى غيرهم الالتزام بأحكام النظام.
ربما لا يكون يسيرا بناء شعبية لنظام يمس جيوب الناس، خاصة أننا ألفنا ضعف تطبيق قواعد المرور لسنوات طويلة، حيث ظل التطبيق اجتهاديا وفي صورة حملات مرورية تبدأ بمفهوم وتنتهي بمفهوم آخر وفي الحالتين لا تسفر عن التزام حقيقي، وأكبر مثال على ذلك ''ربط الحزام''. نحن اليوم نحاول بناء سياج إلكتروني حول النظام نصوصا وتطبيقا، وأرجو أن ننجح بغض النظر عن السلبيات والأخطاء.