تجربة التيسير الكمي اليابانية في الميزان
اختلف الاقتصاديون حول تأثير سياسات التيسير الكمي التي طبقتها اليابان بين عامي 2001 ـــ 2006، فالمؤيدون لهذه السياسات يعتقدون أنها أسهمت في الحيلولة دون تعمق تراجع الأسعار والنشاط الاقتصادي الياباني إلى مستويات أسوأ مما تم تسجيله. ويشير الجدول المرفق إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي الياباني في بداية تطبيق سياسات التيسير الكمي ولكنها ارتفعت إلى أكثر من 2 في المائة بعد عامين من بداية تطبيقها. واستمر النمو حتى بداية الأزمة المالية العالمية. ومع أن هذه المعدلات ليست مرتفعة إلا أن مؤيدي التيسير الكمي يرون فيها نجاحاً وأنها حالت دون استمرار التراجع في الأسعار والنمو الاقتصادي. ويرى مؤيدو هذه السياسة أن اليابانيين كانوا بطيئين وتنقصهم الجرأة في التحرك بقوة، ولهذا كانت نتائج التجربة مشكوكا في نتائجها. ويعتقدون أن سرعة وفاعلية تطبيق السياسات الاقتصادية في بلدان مثل الولايات المتحدة ستعزز فرص نجاح سياسات التيسير الكمي، وخصوصاً أن اليابان بلد لديه ثقافة التوفير أولاً ثم الإنفاق، بينما تسود ثقافة الاقتراض أولاً ثم الإنفاق لدى المجتمعات الغربية.
ويرى معارضو هذه السياسات أنها غير فعالة، وأن النجاح الذي تصادف مع تطبيق هذه السياسات جاء نتيجة للنمو القوي في شركاء اليابان التجاريين والذي شجع الصادرات اليابانية ورفع من الاستثمار والاستهلاك في اليابان. ويعتقد منتقدو هذه السياسات أن التوسع في الاستثمار خلال فترة تطبيقها حصل من خلال المصادر الذاتية للشركات، حيث لم ترتفع القروض للشركات إلى الدرجة التي تتسبب في توسع اقتصادي، وأنه لم تكن هناك معضلة سيولة في الاقتصاد الياباني خلال الفترة تتطلب الحل، فقد كانت السيولة متوافرة وكانت معدلات الفائدة طويلة الأجل قريبة من معدلات الفائدة قصيرة الأجل. ويرون أن السياسات لم تتصد لكساد الأسعار، وأن ارتفاع المواد الأولية وخصوصاً النفط دفع بأسعار المستهلك إلى المستويات الإيجابية، بينما كانت معدلات التضخم الأساسي ثابتة تقريباً. ويعتقدون أن الاقتصاد الياباني حل مشاكله الهيكلية بصورة ذاتية، حيث تراجعت الفوائض في الإنتاج بسبب ارتفاع الطلب العالمي على السلع اليابانية.
ويرون أن هذه السياسات تسببت في إحداث فقاعة في سوق السندات وأحدثت اضطراب في الأسواق المالية، حيث تضخمت أسعار السندات بسبب الطلب المفتعل من المصرف المركزي. وقد أثرت هذه السياسات في ربحية المصارف التجارية مما هدد بحدوث جمود في أرباحها.
ويرى بعض المعارضين أن سياسة التيسير الكمي قد تساعد في حالة انكماش السيولة قصيرة الأجل عند نشوب الأزمات المالية، ولكنها ليست بديلة للإجراءات الصعبة والتي ينبغي اتخاذها للتصدي للأوضاع المالية والاقتصادية السيئة والتي منها التخلص من الأصول السامة، وضمان الودائع، ورفع رؤوس أموال المصارف، وإجبار المصارف على حذف الأصول المشكوك في تحصيلها أو السيئة. ولم تعمل التجربة اليابانية بسبب أن رفع الأصول النقدية لدى المصارف لم يرفع رؤوس أموال تلك المصارف مما لم يشجع المصارف على الإقراض ويجعلها قادرة على المخاطرة حيث تتطلب عمليات الإقراض وجود حد أدنى من الأصول المملوكة للمصارف. ويرى المؤيدون لهذه السياسات أنها تستحق المحاولة لأن التجربة اليابانية لم تتسبب في إحداث آثار جانبية سيئة، فهي لم تؤد إلى ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مقبولة، كما أنها لم تؤثر في معدلات صرف الين الياباني. وإضافة إلى ذلك هناك دلائل على خفضها لتكاليف الإقراض. ويرى بعض المؤيدين أن ضعف أداء التجربة في اليابان جاء نتيجة تأخر تبني هذه السياسات مما قاد إلى تعمق آثار الفقاعة العقارية في عام 1990 ولو تصرفت اليابان بسرعة لكانت أقدر على التصدي لمعضلة كساد الأسعار.
وقد فشلت معظم محاولات القياس الاقتصادية في إيجاد علاقة بين رفع احتياطات المصارف والنمو الاقتصادي الياباني خلال تلك الفترة. وكان الهدف من توفير احتياطات إضافية لدى المصارف التأكيد للأسواق بوجود سيولة إضافية تدفع إلى الاعتقاد بتراجع معدلات الفائدة المستقبلية. وتفيد بعض الدراسات بوجود آثار إيجابية لرفع احتياطات المصارف على معدلات الفائدة على السندات طويلة الأجل حيث خفضت من معدلات الفائدة.
ومع كل هذا فإن هناك القليل من الدلائل على مساهمة هذه السياسة في رفع مستويات الائتمان، ولكن هناك بعض الدلائل على أن هذه السياسات أسهمت في دعم المصارف الضعيفة، حيث وفرت لها مصادر تمويل لتقديم الائتمان بشروط أيسر. إن أهم نتائج تجربة التيسير الكمي في اليابان أنها أسهمت في خفض معدلات الفائدة طويلة الأجل كما ساعدت المصارف الأضعف في الصمود وقت الصدمات المالية. أما أهم مساوئها فهو أنها أخرت التصحيح الهيكلي اللازم اتخاذه لإنقاذ الاقتصادي الياباني.
من أهم النتائج لسياسة التيسير الكمي اليابانية الاعتقاد بأنها أسهمت في استقرار النظام المصرفي من خلال خفض تأثير الأصول غير الجيدة أو المشكوك في تحصيلها في النظام المصرفي، وذلك من خلال رفع كميات السيولة فوق المستويات المطلوبة. كما أسهمت في إزالة مخاوف التمويل المستقبلية لدى الأفراد والشركات مما شجع عمليات الاستهلاك والاستثمار.
وقد انتقدت اليابان لأنها لجأت للتيسير الكمي قبل التوسع المالي، وهذا ما أخر وقلل من تأثير السياسات النقدية. كما أن طبيعة الاقتصاد الياباني المعتمد على الصادرات كمحرك للاقتصاد قللت من تأثير التيسير الكمي. ومن الدروس المهمة من التجربة اليابانية أن تدخل المصارف المركزية يجب أن يكون قوياً وحازماً. وقد تكون سياسات التيسير الكمي الملاذ الأخير الذي يمكن للمصرف المركزي اتخاذه في حالة الخوف من كساد الأسعار والركود الذي قد يؤدي إلى الكساد الاقتصادي.