دعوة لإدراج الاحتلال ضمن الجرائم ضدّ الإنسانية

ريتشارد فولك، أستاذ قانون دولي، أمريكي الجنسية، يهودي الديانة، يتبوأ منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، له مواقف مشرفة وشجاعة ضد الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، فقد وصف هذا الحصار بأنه جريمة ضد الإنسانية. ودعا أخيرا إلى وضع بروتوكول جديد مكمل لقواعد القانون الدولي ينص على (أن الاحتلال الذي لا تبدو له نهاية جريمة ضد الإنسانية وعلى الأمم المتحدة وحكومات العالم اتخاذ الخطوات اللازمة لإنهائه).
وحذر فولك في كلمة قدمت إلى المجلس الدولي لحقوق الإنسان الذي عقد في جنيف بمناسبة يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني من أن المستقبل لن يتسامح معنا إذا غضضنا النظر عن الجرائم التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني ولن يغفر لنا أحد هذا التواطؤ. وأضاف أنه من واقع التراكمات الفلسطينية ظهرت الحاجة إلى بروتوكول جديد يلحق بالقانون الإنساني الدولي ينص على أن الاحتلال المستمر دون نهاية جريمة ضد الإنسانية وانتهاك للقانون الدولي وطالب بالعمل على وقف الكارثة التي تحيق بالشعب الفلسطيني.
وبالنسبة للجهود المبذولة حالياً من أجل إحلال السلام بين أطراف النزاع. قال ريتشارد فولك إن هذه المفاوضات في حاجة إلى وضع مبادئ القانون الدولي محل التنفيذ، حيث تقضي هذه المبادئ بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ومن ضمنها القدس وحل مشكلة اللاجئين وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة وهدم المستوطنات التي شيدت في سنوات الاحتلال وتأمين الحدود الدولية.
والواقع أن دعوة ريتشارد فولك إلى استحداث قواعد قانونية تجعل من الاحتلال الذي لا تبدو له نهاية جريمة ضد الإنسانية، تتفق مع القواعد المستقرة في القواعد الدولي العام التي لا تجيز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، وتعتبر الاحتلال الناشئ عن استخدام غير مشروع للقوة جريمة ضد السلام تعرض مرتكبيها للمساءلة والمحاكمة سواء أمام قضاء وطني أو قضاء دولي. كما أن هذه الدعوة تنسجم تماماً مع قواعد القانون الدولي الخاصة بالاحتلال الحربي سواء نشأ بسبب حرب عدوانية أو حرب مشروعة من أجل الدفاع عن النفس، فالقانون الدولي يعتبر الاحتلال أيا كان سبب نشوئه حالة مؤقتة يجب أن تنتهي بانتهاء الحرب ولا يجيز أن يترتب لدولة الاحتلال الحق في ضم الأقاليم المحتلة إلى إقليمها، وبالتالي لا يجوز لدولة الاحتلال إجراء أي تغيير في التركيبة السكانية للأراضي المحتلة، كما لا يحق لها تغيير القوانين والأنظمة السائدة في هذه الأراضي قبل الاحتلال ولا تغيير أوضاعها الاجتماعية ومناهجها التعليمية. ولقد عبرت محكمة النقض البلجيكية في حكمها الصادر في 20/5/1916 عن الوضع القانوني للأراضي المحتلة بقولها (إن السيادة البلجيكية النابعة من الشعب لا تنتقل لمجرد قيام حالة فعلية مؤداها احتلال بعض الأراضي بالقوات الألمانية، إلى رئيس هذه القوات، لأن القوة لا تخلق القانون).
وإذا كان القانون الدولي يعتبر الاحتلال حالة مؤقتة لا بد أن تنتهي فإن من المنطق السليم أن يعتبر الاحتلال الذي لا تبدو له نهاية جريمة ضد الإنسانية لأن مماطلة دولة الاحتلال في الانسحاب من الإقليم المحتل يدل على وجود رغبة توسعية ومنع الدولة صاحبة السيادة على الإقليم المحتل من استرداد هذا الإقليم، وإذا كان هذا الإقليم المحتل يشكل دولة فإن بقاء الاحتلال يؤدي إلى تعطيل شعب هذا الإقليم من ممارسة حقه في تقرير المصير واسترداد حريته واستقلاله، يضاف إلى ذلك أن الاحتلال الذي لا تبدو له نهاية يتعارض تعارضاً تاماً مع مبادئ ميثاق هيئة الأمم المتحدة وقراراتها التي أوجبت تصفية الاستعمار وأن للشعوب الرازحة تحت السيطرة الأجنبية الحق في تقرير المصير والاستقلال. وأن من حق هذه الشعوب استخدام جميع الوسائل المتاحة لديها بما في ذلك القوة المسلحة للتحرر من الاحتلال الأجنبي واسترداد حريتها واستقلالها.
ولعل مما يزكي دعوة ريتشارد فولك ويدعمها أن كثيراً من الأفعال والتصرفات التي ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي تدخل ضمن الجرائم ضد الإنسانية كما حددتها المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ونسوق على ذلك مثالاً إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان والفصل العنصري واضطهاد السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو ثقافية أو دينية، فهذه الأفعال التي عدتها المادة المذكورة من الجرائم ضد الإنسانية ترتكبها إسرائيل ضد شعب فلسطين بشكل منتظم في ظل احتلال عسكري واستيطاني بغيض لا تبدو له نهاية قريبة، بل إن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي أعلنت باسمها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في مناسبات عديدة، أن المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة غير شرعية، لم تستطع أن تلزم إسرائيل بتجميد بناء هذه المستوطنات (مجرد تجميدها وليس وقفها نهائياً) بسبب طغيان نفوذ جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة وهيمنتها على مراكز صنع القرار الأمريكي. وكفت الولايات المتحدة عن بذل الجهود الخاصة بتجميد الأنشطة الاستيطانية في الأراضي المحتلة كشرط لاستئناف المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ورحب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بهذا التحول في السياسة الأمريكية. بل إن التصريحات الأخيرة لوزيرة الخارجية الأمريكية هلاري كلينتون تدل على خضوع الحكومة الأمريكية للمطالب الإسرائيلية، وأسوق على ذلك مثالاً بقول الوزيرة كلينتون إن (الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لا يمكنهما فرض حل على الطرفين، وحتى لو كان ذلك في وسعنا فإننا لن نفعل ذلك، لأن المسألة ليست سوى اتفاق عن طريق التفاوض بين الطرفين سيدوم ويتعين عليهما أن يرغبا في ذلك). فالوزيرة الأمريكية بهذا التصريح أيدت المطلب الإسرائيلي بإبعاد أي مفاوضات تجري مع الفلسطينيين عن تدخل المجتمع الدولي حتى تتجنب أي ضغط دولي يهدف إلى كبح إسرافها في التوسع والعدوان على حقوق شعب فلسطين.
وهنا نتساءل هل يعقل أن التفاوض بدون تدخل المجتمع الدولي وتحت إكراه الاحتلال وانعدام توازن القوى بين الطرفين يمكن أن يؤدي إلى حل يتسم بشيء من العدل يجعله مقبولاً وقابلاً للبقاء؟!.. دروس التاريخ تؤكد أن الاتفاقات غير المتكافئة غير قابلة للدوام. وتقول الوزيرة الأمريكية أيضا إنه يتعين أن تحمي الحدود ''المستقبلية'' أمن إسرائيل. ويرى بعض المراقبين أن عبارة (الحدود المستقبلية) هي في الواقع ''شفرة دبلوماسية'' تدل على عدم الإصرار على أنه يتعين على إسرائيل العودة إلى خطوط ما قبل حرب 1967. وبهذا التصريح أكدت الوزيرة الأمريكية تأييد بلادها للمطلب الإسرائيلي بعدم العودة إلى خطوط ما قبل 1967 وإجراء تغييرات إقليمية لصالح إسرائيل.
ومن جهة أخرى، لم يملك أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون سوى الإعراب عن خيبة أمله حيال عدم استجابة إسرائيل للنداءات الدولية المطالبة بتجميد للنشاط الاستيطاني في الضفة الغربية. ولقد أدى التعسف الإسرائيلي إلى صحوة ضمير بعض الزعماء الأوروبيين السابقين فوقعوا رسالة تحث الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات على إسرائيل بسبب سياستها في مسألة بناء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وقال هؤلاء المسؤولون السابقون في رسالتهم (إن إسرائيل ترفض احترام القانون الدولي). ومن بين الموقعين على هذه الرسالة التي تم نقلها إلى قادة الاتحاد الأوروبي وحكومات دول الاتحاد، الرئيس الألماني الأسبق ريخارد فون فايتسكر ورئيس وزراء إسبانيا الأسبق فيليب جونزاليس ومسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي سابقاً خافيير سولانا.
وطالما أن محور هذا المقال يدور حول الاحتلال الأجنبي الذي لا تبدو له نهاية قريبة فإن ذلك يدعونا إلى الإشارة إلى مثالين آخرين لهذا النوع من الاحتلال، الأول احتلال إسبانيا لمدينتي سبتة ومليلة المغربيتين اللتين احتلتهما إسبانيا منذ عصر الاستعمار الأوروبي وتزعم زوراً وبهتاناً أنهما جزء من الإقليم الإسباني. والمثال الثاني احتلال إيران منذ عام 1971م لجزر أبي موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى التابعة للإمارات وترفض إيران الانسحاب من هذه الجزر بدعوى أنها جزر إيرانية وهي دعوى يكذبها التاريخ وأحكام القانون الدولي، وقد دأب قادة دول مجلس التعاون الخليجي في بياناتهم الصادرة عقب اجتماعاتهم السنوية على مطالبة إيران بالانسحاب من هذه الجزر وتسوية الخلاف حولها بالوسائل السلمية، لكن إيران تأبى الاستجابة لهذه المطالبات.
ونخلص من جميع ما سبق إلى أنه إذا كان القانون الدولي يعتبر الاحتلال الأجنبي الناشئ عن العدوان جريمة ضد السلام فإن من الضروري أن يعتبر الاحتلال الأجنبي أياً كان سبب نشوئه والذي لا تبدو له نهاية جريمة ضد الإنسانية تستوجب إنزال العقوبات على دول الاحتلال وقادتها المسؤولين عن استمرار هذا الاحتلال. فالاحتلال هو مكمن الداء وأساس البلاء وتحت سطوته ترتكب سلطات الاحتلال جرائم بشعة ضد سكان الأقاليم المحتلة بهدف قمع رغبتهم في التحرر والاستقلال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي