العرب وديناميكية القانون الدولي
سنتان مرّتا على عملية الرصاص المسكوب أو "المنصهر" والثأر المبرر، وهي التسمية التي أطلقتها إسرائيل على حربها المفتوحة وعدوانها المكشوف على غزّة، أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009، التي دامت 22 يوماً، وخلال تلك الفترة سارت مياه كثيرة تحت الجسور كما يُقال، فإسرائيل لم تكتفِ بالعدوان، بل أرادت متابعته بطرق مختلفة، باستمرار القصف على السكان المدنيين، لا سيما في ظل الحصار المفروض على غزّة منذ أكثر من ثلاث سنوات، إضافة إلى ملاحقة الناشطين الفلسطينيين مثلما حصل في قصة محمود المبحوح في الإمارات، حيث قام جهاز الموساد الإسرائيلي وبإشراف تام من رئيسه مئير دوجان باغتياله.
وعلى الرغم من الفضيحة الإسرائيلية وسخط الرأي العام العالمي وملاحقة السلطات الإماراتية للقتلة، فإن إسرائيل لم تكترث، بل تمادت في سلوكها المخالف لقواعد القانون الدولي، حيث أقدمت على جريمة أخرى، وقتلت تسعة أتراك من سفينة مرمرة التي كانت ضمن قافلة الحرية، التي توجهت للتضامن مع أهالي غزة ضد الحصار والعدوان الإسرائيلي، كما أدارت الظهر عن تقرير جولدستون الأممي الذي دمغ إسرائيل بارتكاب جرائم ترتقي إلى عداد جرائم حرب.
وقد كشف موقع ويكيليكس الذي قام بإظهار عشرات الآلاف من الوثائق التي تخص الاتصالات السرية الحكومية الاستخباراتية الأمريكية، ومنها ما يتعلق بالصراع العربي ـــ الإسرائيلي ومواقف القادة الإسرائيليين، الأمر الذي استلزم مع قيام إسرائيل بإجراء سريع وعاجل يقضي بتنحية رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي مئير دوجان الذي قضى ثماني سنوات في موقعه وتعيين تامير ردو محلّه، وهو رئيس جهاز الموساد الحادي عشر منذ قيام دولة إسرائيل. ولكن ما السبيل لتوجيه الاتهامات إلى مرتكبي الجرائم في غزة؟ وهل يمكن تجريمهم طبقاً للقانون الدولي الإنساني؟
لعل هناك أكثر من خيار قانوني دولي يمكن اعتماده لملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجريمة العدوان وتهديد السلم والأمن الدوليين، ولكن هذه الخيارات تعترضها عقبات سياسية في الدرجة الأساسية وعقبات قانونية أيضاً، ولعلّ ذلك يتمثّل في مواقف الولايات المتحدة والقوى المتنفذة في نظام العلاقات الدولية التي حالت على مدى 62 عاماً دون ملاحقة إسرائيل وتجريمها قضائياً بموجب أحكام القانون الدولي.
ومثل هذه المواقف استفحلت بتفرّد الولايات المتحدة وهيمنتها على الأمم المتحدة، خصوصاً عند انتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الأيديولوجي من شكل إلى آخر، لاسيما بعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي وتفكك الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي مهّد لاعتبار "الإسلام" هو العدو الأول والخطر الأكبر بعد ظفر الليبرالية الجديدة بالهيمنة على العالم.
أما الخيارات المتاحة فهي:
1- الخيار الأول: هو الطلب من الأمم المتحدة إنشاء محكمة خاصة مؤقتة على غرار محكمة يوغسلافيا ورواند وسيراليون وكمبوديا والمحكمة الدولية لملاحقة قتلة الرئيس رفيق الحريري، التي هي محكمة خاصة لها طابع دولي. ولكن العقبة الأساسية التي قد تحول دون تحقيق ذلك، هي: استخدام واشنطن حق الفيتو، وانحيازها لمصلحة إسرائيل، الأمر الذي يعرقل اتخاذ مثل هذا القرار، وهو ما ينبغي أخذه في الحسبان عند التفكير في اتخاذ خطوة جدية ناجحة.
2- الخيار الثاني إحالة الأمر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بإنشاء محكمة خاصة من قبلها طبقاً لمبدأ "الاتحاد من أجل السلام" الصادر بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 377 في عام 1950 (بشأن كوريا). ورغم النزاع الفقهي بشأن القرار المذكور، إلاّ أنه يعدّ إحدى السوابق التي يمكن اعتمادها والبناء عليها، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من الأنشطة لحشد وتعبئة الكثير من الطاقات للحصول على قرار يمكن بموجبه مقاضاة مرتكبي الجرائم.
ولكن هذا الخيار قد لا ينجح بالحصول على أغلبية في الأمم المتحدة، وإنْ نجح فقد تمتنع الأمم المتحدة من تمويل المحكمة، لا سيما وأن الولايات المتحدة متحكّمة في التمويل، ومن المحتمل ــــ وهذا ما هو متوقع ــــ أن تمتنع من تقديم التمويل اللازم للأمم المتحدة بهذا الخصوص، الأمر الذي قد تنهار معه إمكانية تحقيق هذا الخيار.
3- الخيار الثالث العمل على إحالة إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهي محكمة دائمة، لا سيما بعد أن صدقت عليها أكثر من 100 دولة، وهذا يتطلّب من الدول العربية الانضمام إليها والتصديق على ميثاقها بعد التوقيع عليه. ولعل نظام محكمة روما فيه بعض العقبات أيضاً، على الرغم من أن مبادئه يمكن أخذها بنظر الاعتبار عند التحرك في اتجاه رفع دعوى ضد المرتكبين الصهاينة. وقد اقتصر اختصاص المحكمة على ثلاث جرائم هي: جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة الجنس البشري، حسبما حددته المادة الخامسة من النظام الأساسي لمحكمة روما. أما المسؤولية المُعاقب عليها فهي المسؤولية الفردية.
وقد حددت اتفاقية روما أنه لا تجوز محاكمة هيئات أو دول، واقتصرت على محاكمة أفراد مسؤولين حتى إنْ كانوا رؤساء دول أو رؤساء حكومات (رؤساء وزراء) والمسؤولين الآخرين، بمن فيهم القيادات العسكرية العليا، الأمر الذي يحتاج إلى أن يتقدم أحد الأعضاء المصدقين على الاتفاقية بطلب لرئيس المحكمة الجنائية يحدد من خلاله أسماء المتهمين، وحيث يمكن محاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت ووزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني ووزير الدفاع أيهود باراك، إضافة إلى شيمون بيريز وعدد من القيادات العسكرية العليا، ولعلّ من حق أحد "رعايا" الدولة المصدقة على الاتفاقية أن ترفع دعوى قضائية ضد المرتكبين.. كما يمكن الطلب إحالة المتهمين إلى القضاء الدولي طبقاً لاتفاقية منع إبادة الجنس البشري التي يتم التوقيع عليها عام 1948.
وفي هذه الحالة يمكن محاكمة المتهمين في أي من الدول المُعتدى عليها، ومع أن فلسطين ليست دولة في الوقت الحاضر، وهو الأمر الذي "تتذرع" به إسرائيل "قانونيا"، كما يذهب إلى ذلك الفقه القانوني الإسرائيلي، وتزعم إسرائيل أنها انسحبت من غزة منذ عام 2006، إلا أن حق محاكمة المسؤولين الإسرائيليين بأسمائهم هو حق أصيل لا ينتقص منه غياب دولة فلسطين، على الرغم من وجود عقبة تتعلق بعدم إمكانية تطبيق مقاضاة إسرائيل في الوقت الحاضر بسبب اختلال توازن القوى.
4- الخيار الرابع هو الاختصاص العالمي، وسيكون من حق أي دولة طبقاً لاتفاقية جنيف الرابعة عام 1949، محاكمة المتهمين بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية، بصرف النظر عن مكان وقوع هذه الجرائم، طبقاً لقوانين الدولة ذاتها. وقد قامت إسرائيل بُعيد العدوان، لا سيما بارتفاع موجة التنديد بها، وطلب مقاضاتها بتكليف محامين دفعت لهم أكثر من ثلاثة ملايين دولار لمعرفة القوانين التي تنطبق على مسؤولين يمكن اتهامهم بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، كما قامت من خلال ضغط أمريكي لتعديل القانون البلجيكي. وهي تشنّ حالياً حملة ضد إسبانيا وتسعى لتغيير قوانينها، خصوصاً بعد قبولها دعاوى ضد بن إليعازر وستة من المتهمين الإسرائيليين. وكانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني قد صرّحت بأنها تجري اتصالات مع إسبانيا بهدف تعديل قوانينها للحؤول دون استخدامها من جانب بعض منظمات المجتمع المدني في ملاحقة عدد من المسؤولين الإسرائيليين. ولكنها لوحقت هي الأخرى من القضاء البريطاني بعد زيارتها إلى لندن، واضطرت إلى الهروب بتواطؤ مع الأجهزة الأمنية.
وعلى الرغم من أن هذه الإمكانية ما تزال متوافرة حتى الآن، حيث إن هناك عدداً من الدول تسمح قوانينها ونظامها القانوني بمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب ومنها: كندا وإسبانيا وألمانيا وهولندا وفرنسا وبريطانيا، إلا أن الأمر لم يجرِ استثماره من جانب العرب على نحو مؤثر، فالحكومات لم تدخل هذا الباب بعد، أما المجتمع المدني فإمكاناته شحيحة وأهالي الضحايا بأوضاع صعبة، ولا تسمح لهم باختيار هذا الطريق لتكاليفه الباهظة. ويتطلب الأمر أيضاً تعديل قوانين الجزاء والعقوبات العربية، لكي تقبل دعاوى ضد مسؤولين إسرائيليين متهمين بارتكاب جرائم، خصوصاً إذا مرّوا عبر أراضيها، إذ يتعين في هذه الحالة وجود تشريعات قانونية تسمح بتجريم ومحاكمة المتهمين بارتكاب الجرائم، وهذا هو الأساس الذي استندت إليه المحاكم البلجيكية في قبول النظر في الدعاوى التي أقيمت ضد شارون لكونه المتهم الأساسي في جرائم صبرا وشاتيلا 17 و18 أيلول (سبتمبر) 1982.
إن اللجوء إلى هذا الخيار ممكن، على الرغم من العقبات التي تواجههم، لا سيما من خلال الضغوط السياسية والتعقيدات القانونية، التي قد تجعل الجناة يفلتون من يد العدالة.
5- الخيار الخامس اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، وعلى الرغم من أن اختصاص المحكمة هو الفصل في النزاعات الدولية (من الدول) التي تُعرض عليها وتفسير المعاهدات والاتفاقيات الدولية والنصوص القانونية، وكذلك إصدار فتاوى استشارية، وبهذا المعنى فإن اختصاص المحكمة يتعلق بإصدار أحكام مدنية وليست جزائية على المتهمين، وهي "محكمة حقوقية" تقضي بالمسؤولية المدنية والتعويض، وهناك سابقة البوسنة، حيث أقامت دعوى لطلب التعويض من صربيا للمجازر المرتكبة، وطلبت من محكمة العدل الدولية عام 1993 وقف المجازر وطلب التعويض. ولعل صدور أحكام بالتعويض المدني سيسهم لاحقاً بملاحقة المرتكبين عبر محكمة جنائية، لاتخاذ عقوبات ضدهم وتجريمهم طبقاً للقانون الدولي الإنساني.
إن استخدام سلاح القانون الدولي، يعني توثيق الجرائم بشكل دقيق ومنظم، ووضع ملف قانوني لكل جريمة سواء داخل إسرائيل أو أمام القضاء الدولي. وتعد إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي وضعت تشريعاً يحمي مرتكبي التعذيب بصورة قانونية، ويحمي مسؤوليها من القتل خارج القضاء، (وقد فشلت المحاكم الإسرائيلية في مواجهة الاغتيالات ومحاسبة الجناة).
ولعل أصابع الاتهام يمكن توجيهها إلى مرتكبي جريمة الاحتلال، ولا سيما الاستيطان الذي يعد جريمة دولية قائمة، وهو الأمر الذي تغضّ الولايات المتحدة وأوروبا الطرف عنه، وحتى على المستوى العربي لا يوجد تحرّك مسؤول لرفع دعاوى ضد جريمة الاستيطان، وكان توقيع البروتوكول الأمني الأمريكي – الإسرائيلي مكافأة لإسرائيل الذي قضى بمراقبة المعابر والأنفاق بحراً وبراً وجواً لمنع "تهريب الأسلحة"، وفي حقيقة الأمر يعني هذا البروتوكول منع أي مقاومة للاحتلال، وهو يشمل جميع دول المنطقة دون استثناء. وهو يلقي اللوم على الضحية بل يعاقبها ويمنعها من حقها في المقاومة والانعتاق وتقرير المصير، بدلاً من ملاحقة المتهم بارتكاب الجرائم.
لقد وضعت تسريبات "ويكيليكس" العرب أمام تحديات جديدة، ولا سيما بإمكانية استخدام الوسائل المتاحة في القانون الدولي، الذي يتمتع اليوم بحيوية كبيرة لا يمكن نكرانها، لكنه ينبغي أن تستند إلى إرادة سياسية، وحشد طاقات جديدة، ومعرفة دبلوماسية وقانونية دولية وتحالفات عالمية.