نظامنا السياسي... 4/2
(1)
قلت إن روح الأمم هي الصفات الأدبية والعقلية التي تتكون من مجموعها روح الأمة وهي خلاصة ماضيها وميراث أجدادها وعلة حركتها التي تسير عليها. كما أن الروح السعودية شكّلها ميراث النبوة والعروبة وتقاليد وسلوم وسلوكات بدوية ''الصحراء'' وحضرية ''مدن الواحات وموانئ البحار''، ودعوة إصلاحية ووحدة وطنية منذ ثلاثمائة عام وتجربة تحديثية ذات أفق منفتح.
إن تلك الروح عميقة فتختار البدائل الوسطية فتجدد ذاتها فتستفيد، ثم ترفض بدائل القبول المطلق أو بدائل الرفض المطلق ومن الروح تنبثق النظم والأخلاق ومنها النظام السياسي ومن الأخلاق الفضيلة السياسية لقادتها ونبلائها التي سوف أتحدث عنها في مقالتي التالية، أما النظام السياسي فأقصد به النظام الاسمي ''الشريعة'' ومؤسسات الحكم.
(2)
نشأت السياسة منذ نشأة الجماعات البشرية الأولى، ثم القرية فالمدينة حين أقام، ثم استوطن ذلك الإنسان رقعة جغرافية محددة بدافع تحقيق إشباع الحاجات الأساسية ''الضرورات'' من أمن وطعام، ناهيك عن أن الإنسان اجتماعي بطبعه فيتبادل الاتصال والسلع والخدمات، ومن أجل هذا كله ألف التجمع فاحتاج تبعا له إلى التنظيم وتقسيم العمل؛ فكانت السياسة يتولاها رئيس يتمتع بقوة القبول أو القهر.
وتعرف السياسة لغة بأنها: القيام على الشيء بما يصلحه والسياسة: فعل السائس.
وتعرف السياسة اصطلاحا: فن ممارسة القيادة والحكم وعلم السلطة أو الدولة.
(3)
النظام السياسي السعودي انبثق من روح السياسة الشرعية، يقول الدكتور فتز جرالد: ''ليس الإسلام دينا فحسب.. ولكن نظام سياسي أيضا''، وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر''.
ويقول الدكتور شاخت: ''إن الإسلام يعني أكثر من دين، إنه يمثل نظريات قانونية، وسياسية وجملة القول إنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معا''.
ويقول جيب: ''إن الإسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل، له أسلوبه المعين في الحكم، وله قوانينه وأنظمته الخاصة به..''.
(4)
تعرف السياسة الشرعية بمفهومها الضيق بأنها إنفاذ للشريعة الإسلامية بتحكيمها؛ فإن الكثير من الآيات جاءت آمرة بتطبيق أحكامها وإتباع ما أمرت به وترك ما نهت عنه، من ذلك قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) سورة الجاثية آية 18، قال ابن جرير: فاتبع تلك الشريعة التي جعلناها لك ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون بالله الذين لا يعرفون الحق من الباطل فتعمل به فتهلك إن عملت به، وهو قول ابن عباس وقتادة.
إن مقتضى التوحيد بإفراد الله بالطاعة والخلوص له من الشرك هو تحكيم شريعته لتحقيق علة الخلق، تلك العلة التي قسمت الأمم منذ الميلاد الأول للإنسان بين توحيد ووثنية، يقول أستاذ تاريخ الفلسفة السيد جوستان جاردير: ''للديانات الثلاث جذر مشترك؛ فالنص المقدس عند المسلمين هو القرآن وكذلك العهد القديم مكتوبان بلغتين ساميتين قريبتين، وإحدى الكلمات المستعملة في العهد القديم، للدلالة على ''الله'' ذات جذر لغوي مشترك مع كلمة ''الله'' الإسلامية''.
أما ما يتصل بالمسيحية، فإن الأمر أكثر تعقيدا بقليل، ومن المؤكد أن الأصل هنا هو سامٍ أيضا، لكن العهد القديم ترجم إلى الإغريقية، وهكذا فإن الميثولوجيا ''الأساطير والقصص'' والمعتقدات الدينية نمت متأثرة باللغتين اليونانية واللاتينية، كما تأثرت لنفس السبب، بفلسفة العهد الهيلينستي (اليوناني المقدوني المتعدد الآلهة والأصنام) كان الهنود الأوربيون (سكان أوروبا) يؤمنون على ما قلنا بأنواع كثيرة من الآلهة، ومن المدهش أن الساميين عبدوا مبكرين إلها واحدا لا أكثر، وهذا يسمى بالديانة التوحيدية أو بديانات التوحيد، وسواء أكنا في اليهودية أم المسيحية والإسلام، فإن الفكرة الأساسية هي أنه لا يوجد إلا إله واحد.
وسمه أخرى سامية هي أيضا أن الساميين لهم رؤية خطية للتاريخ، فالله خلق العالم ذات يوم، وهذا اليوم هو بداية التاريخ، ولكن سيأتي يوم يصل التاريخ فيه إلى نهايته، وهذا اليوم هو ''يوم الحساب الأخير'' عندما يعود الله يحاكم الأحياء والأموات''.
(5)
أما المعنى العام للسياسة الشرعية فهو ما قاله ابن عقيل الحنبلي: ''السياسة: ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نزل به وحي''.
فالسياسة بهذا المفهوم هي المصلحة والتي هي مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.
والسياسة هنا هي الفضيلة التي تمكّن الحاكم من تدبير أمر الناس، قال عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري في وصف معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه: ''إن وجدته ولي الخليفة المظلوم (يقصد عثمان بن عفان رضي الله عنه) والطالب بدمه، الحسن السياسة، الحسن التدبير''.
ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن للسلطان سلوك السياسة في تدبير أمور الناس وتقويم العوج وفق معايير وضوابط، ولا تقف السياسة على ما نطق به الشرع.
وقالت الحنفية: السياسة داخلة تحت قواعد الشرع، وإن لم ينص عليها بخصوصها، فإن مدار الشريعة - بعد قواعد الإيمان - على حسم مواد الفساد لبقاء العالم وقال القرافي من المالكية: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع، بل تشهد له الأدلة، وتشهد له القواعد، ومن أهمها كثرة الفساد وانتشاره والمصلحة المرسلة التي قال بها مالك وجمع من العلماء.
(6)
نخلص على أن النظام السياسي في الإسلام يقوم على مبدأين، هما: سيادة الشريعة الإسلامية فهو الإطار القيمي والفلسفي والأخلاقي للحكام والمحكومين، وهو الحق المطلق الذي يرحبون له عند الفعل أو التخاصم والمتضمن كافة الحقوق والحريات الأساسية التي يحتاج إليها الإنسان، والمبدأ الثاني هو العدل بإنفاذ المقدس المنصوص عليه أو اجتهاد الحاكم أو من ينيبه باستخدام الأدوات الأصولية في فقه التعزير أو المصلحة التي يتوصل لها الحاكم بقوة فضيلته السياسية، وهي النسبة الأغلب من القرارات السياسية للحاكم أو المؤسسات التي ينشئها، ثم ينيبها للممارسة وهي مقصود الشرع.
إن النظام السياسي السعودي يتمثل تلك السياسة وهو النموذج المعاصر للتراث السياسي العربي والإسلامي كامتداد لخبرة دول الإسلام منذ عصر الراشدين وبني أمية والعباسيين.
إن النظام السياسي السعودي يرتكز في ممارسته السياسية على النظام الأساس للحكم، وهو دستور الدولة الذي يتكون من ثلاث وثمانين مادة، وقد جاءت هذه المواد موزعة في تسعة أبواب: ''المبادئ العامة – نظام الحكم – مقومات المجتمع – المبادئ الاقتصادية – الحقوق والواجبات – سلطات الدولة – الشؤون المالية – أجهزة الرقابة''.
حدد النظام الأساس للحكم في مادته الأولى هوية الدولة السعودية: ''دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة دينها الإسلام ودستورها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم''.
ثم نصت المادة الثامنة على المبدأ الثاني، وهو: العدل: ''يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية''.
ونصت المادة السادسة والأربعين على ''أنه لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية''، وجاء في المادة الخامسة والأربعين على ''أن مصدر الإفتاء في المملكة العربية السعودية كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم''.
إن السلطات ''المؤسسات'' في النظام السياسي السعودي ثلاث سلطات مرجعها الملك، ففي المادة الرابعة والأربعين ''تتكون السلطات في الدولة من: السلطة القضائية، والسلطة التنفيذية، والسلطة التنظيمية، وتتعاون هذه السلطات في أداء وظائفها وفقا لهذا النظام وغيره من الأنظمة، والملك هو مرجع هذه السلطات''.
إن الملك بفضيلته السياسية وأعوانه وبتلك المؤسسات يسوس الدولة ويقودها ويدبر شأنها بالسياسة الشرعية بمفهوميها الخاص والعام؛ فنصت المادة الخامسة والخمسون على أن ''يقوم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية''.
أيها السعوديون .. بالله عليكم أليس نظامنا عميقا في التاريخ..