الحسابات المصرفية ودورها في تنظيم سوق العمل
من بين السلبيات التي أفرزتها عملية استقدام العمالة الأجنبية في المملكة هي العلاقة المالية المجحفة التي تنشأ في عدد كبير من الحالات بين العامل وكفيله، والتي تصب في أغلبها لصالح ذلك الكفيل على حساب العامل والمجتمع معا. إذ إن كثيرا ما تستخدم تأشيرة الاستقدام من قبل البعض لأهداف وغايات تختلف عما صرح به طالب تلك التأشيرة عند تقديم طلبه لوزارة العمل. ولعل الهدف غير المعلن والأكثر شيوعا بين تلك الفئة من ''الانتهازيين'' هو بيع التأشيرة على العامل ذاته عبر مكاتب أو وسطاء بمبالغ قد تصل إلى أكثر من 20 ألف ريال لكل تأشيرة. أما الصورة الأخرى لتلك العلاقة المالية الجائرة فهي علاقة قد تمتد لسنوات يلتزم خلالها العامل بدفع مبلغ شهري مقطوع لكفيله مع دفعة خاصة عند تجديد الإقامة. أي أن دور كل من الطرفين في تلك العلاقة بصورها المتعددة انعكس رأساً على عقب، فبدلاً من أن يدفع الكفيل أجرة للعامل المستقدم، أصبح العامل مسؤولا عن دفع ''إتاوة'' لكفيله لقاء منحه فرصة التسكع في أرجاء البلاد دون ضوابط أو شروط، سوى اللهم الانتظام في تسديد ''مستحقات'' الكفيل.
في تلك الحالتين وما شابهما من حالات أخرى يطلق الكفيل يدي ورجلي العامل ليهيم بوجهه على غير هدى بحثا عن مصدر دخل في السوق أينما شاء وكيفما شاء دون أدنى مسؤولية على الكفيل تجاه العامل أو المجتمع ومؤسساته. وليس من المستغرب أن يكون مقر سكن الكفيل في أقصى شمال المملكة، بينما يمارس العامل نشاطه (أيا كان) في أقصى الجنوب. ومن شواهد تلك الظاهرة تجمع المئات من العمالة الأجنبية العاطلة في مراكز وأماكن معروفة في المدن الرئيسة بحثا عن عمل، أغلبها يحمل إقامات نظامية. ثم هناك الآلاف من العمالة الأجنبية أيضا (ذكورا وإناثا) التي تعمل في منازل وأماكن لا علاقة للكفيل بها.
تلك الممارسات تنتج عنها، بلا شك، أضرار كثيرة على المجتمع والاقتصاد الوطني، ما يصعب حصره. إذ إن تسيب العمالة الأجنبية ''النظامية'' في الشوارع وغيرها، دون مصدر دخل ثابت ومعروف يوفره الكفيل، من شأنه أن يزيد في عدد حوادث العنف والسرقات، الجرائم الأخلاقية، والأمراض المعدية. ثم لا ننسى الأضرار التي تلحق بالصحة العامة بسبب الأطعمة الفاسدة والمغشوشة التي تخصصت تلك العمالة في الاتجار بها وترويجها.
إن ما سبق سرده عن الممارسات غير السوية التي لا يتورع عنها كثير من الكفلاء في استقدام العمالة الأجنبية، ليس دعوة لتأييد ما يراه البعض بإلغاء نظام الكفيل، كما أنه ليس دعوة لتضييق عملية الاستقدام، بل هو دعوة لتحفيز أطروحات وأفكار جديدة ربما تسهم في تقليص تلك الممارسات مع توفير درجة أكبر من المرونة المتاحة حاليا أمام أصحاب الاحتياجات الحقيقية للاستقدام من أفراد ومؤسسات.
من بين تلك الأفكار التي قد تستحق مزيدا من الدراسة هي فكرة تستند إلى التطور الكبير الذي حققته المملكة في القطاع المصرفي من كفاية في الخدمات وأدوات للرقابة والمتابعة. كما أن فروع المصارف وأجهزة الصرف الآلي باتت تنتشر اليوم في كل بقاع المملكة، ما يجعل الأمر ميسرا لفتح الحسابات وإيداع المبالغ وتحويلها في لمح البصر إلى أقصى قرية في الفلبين، بنجلاديش، الهند، إندونيسيا، وغيرها. ومن ثم قد ترى وزارة العمل ملاءمة تكليف كل كفيل بفتح حساب مصرفي لمكفوله خلال فترة معينة من وصوله تودع فيه مرتباته الشهرية، وأن تبلغ مؤسسة النقد العربي السعودي المصارف بتسهيل ذلك الإجراء مع اشتراط أن يكون إيداع تلك المرتبات فقط عبر التحويل من حساب الكفيل وليس من حساب أي طرف آخر.
على أن نجاح ذلك الإجراء لا بد له من حافز يكافئ الملتزم ويعاقب المخالف، وهذا يدعو إلى إلزام كل كفيل عند طلب تجديد إقامة مكفوله تقديم كشف حساب ذلك المكفول بما يثبت تحويل رواتبه قي تواريخها المستحقة من حساب الكفيل، وإلا فلن تجدد الإقامة مع حرمان الكفيل من استقدام عمالة أخرى. أما الكفيل الملتزم بتقديم ذلك الكشف فيمنح المزيد من التسهيلات في الاستقدام، بل قد يكافأ بأكثر من ذلك بأن يسمح له بنقل كفالة ما يحتاج إليه من عمالة متواجدة في البلد، دون الرجوع إلى كفيلهم الذي تخلى عنهم.
إن ربط تجديد الإقامات بوجود حساب مصرفي لكل عامل تحول إليه رواتبه من حساب كفيله سيحقق بلا شك منافع كثيرة، من بينها حفظ حقوق العامل، تقليص المتاجرة بالتأشيرات ونقل الكفالات، الحد من العمالة السائبة وما يترتب عليها من مضار للمجتمع، ترشيد استقدام العمالة الأجنبية، وضبط حركة الأموال.