التعليم في السعودية.. أين الخلل؟ (2 من 2)

تحدثنا في الجزء الأول من هذه المقالة عن تطور وازدهار دول مثل أستراليا، وفنلندا، ونيوزلندا، والنرويج، وكوريا الجنوبية، وكندا، وإيرلندا، وتبوئها أعلى المراتب العالمية في الموارد البشرية، نتيجة لاعتمادها على تطوير مواردها البشرية، من خلال التطوير النوعي والمستمر للتعليم العام والتعليم العالي والتعليم المهني، كما وضحنا أن المملكة ما زالت متأخرة جداً عن هذه الدول وغيرها في مجال التعليم، كنتيجة حتمية، مؤلمة، ولكنها حقيقة، لفشل مشاريع تطوير التعليم العام في المملكة على مدى العقود السابقة. خلال السنوات السابقة والحالية، تم تخصيص وصرف مليار ريال تقريباً، على سبيل المثال، على ترجمة مناهج الرياضيات والعلوم في إحدى الدول العربية، ومع هذا لم يتطور التعليم، وتم بناء مدارس حديثة وبمواصفات عالمية، وصرف المليارات عليها، ومع هذا لم يتطور التعليم، وتم شراء أجهزة حاسب آلي لبعض الطلبة والمعلمين، ومع هذا لم يتطور التعليم، وتم جلب شركات عالمية (أجنبية) استشارية وتنفيذية في التعليم والحاسب، وصرف مبالغ طائلة عليها، ومع هذا لم يتطور التعليم، وتم تحسين كادر المعلمين والمعلمات، ومع هذا لم يتطور التعليم، وتم سعودة التعليم العام قبل أكثر من عشر سنوات، ومع هذا لم يتطور التعليم، ما يشير إلى أن هناك خللا ما، ويبدو أن الجهاز الإداري القائم على تطوير التعليم لا يدرك هذا الخلل، فهو لا يتعامل مع المشكلة الحقيقية التي يواجهها التعليم في المملكة، إما لأنه لا يريد أن يتعامل مع مشكلة التعليم الحقيقية، أو لأنه لا يستطيع تحديد مشكلة التعليم أو لأنه يعتقد بأنه، فعلاً، يتعامل مع المشكلات الحقيقية للتعليم، وهي في رأيهم، المناهج والمباني وأجهزة الحاسب الآلي.
العملية التعليمية تتكون من ثلاثة عناصر رئيسة: معلم، وطالب، ومنهج، تتفاعل فيما بينها من خلال طريقة تعليم حديثة تعتمد على تشجيع وممارسة المناقشة، والتحاور، والفهم، والتفكير الإبداعي، والاعتماد على النفس، وليست طريقة التلقين والحفظ، وهو واقع الحال في تعليمنا. هناك توجه وتركيز على صرف الجهود والأموال على عوامل أخرى مثل المباني، وأجهزة وبرامج الحاسب، وهي ليست إلا أدوات مساعدة، والتركيز عليها فقط يمثل هدراً للأموال، وضياعاً للجهود، طالما أنها لا تؤثر في العملية التعليمية بشكل مباشر. فماذا ينفع مبنى حديث وأجهزة وبرامج حاسوبية، في ظل وجود معلمين غير أكفاء؟ المهارات الأساسية التي يجب التركيز عليها في التعليم تتمحور حول القراءة والكتابة والمحادثة والرياضيات والعلوم فقط ضمن منظومة من القيم والأخلاقيات، وهي التي ينبغي أن يتقنها طلبتنا، حتى يستطيعوا أن ينافسوا في سوق العمل محلياً ودولياً. ولا يستطيع أبناؤنا أن يتمكنوا من إدراك وتعلم هذه المهارات إلا من خلال وجود معلمين ومعلمات أكفاء ومخلصين، ويملكون صلاحيات واسعة في العملية التعليمية أعلى من مدرائهم، فهل يتوفر العدد الكافي من هذه الكفاءات في المعلمين الحاليين؟ نحتاج إلى أكثر من 100 ألف من هذه الكفاءات لتعليم المهارات الأساسية في المرحلة الابتدائية، وهي المرحلة الأهم والمؤثر الأساس على مستوى وأداء ومستقبل الطالب، نحتاج إلى تخصيص أفضل الكفاءات التعليمية للمرحلة الابتدائية قبل المراحل الأخرى، نحتاج إلى تقدير واحترام المعلم الكفء وزرع الثقة فيه ومكافأة المتميز منهم معنوياً ومالياً، نحتاج إلى فرض الحصول على دبلوم أو ماجستير تربوي لمعلمي المرحلة الابتدائية، إضافة إلى بكالوريوس في التخصص كحد أدنى، كما تفعله بعض الدول المتقدمة مثل اليابان، نحتاج إلى الاستثمار في المعلم وتدريبه بشكل مستمر، ومن خلال برامج عملية واحترافية مفيدة، وعلى أيدي مدربين أكفاء، وخبراء، كما تفعله الدول المتقدمة مثل فنلندا، وليست دورات عادية، كمية أكثر منها كيفية، وعلى أيدي مدربين ومدربات غير أكفاء، نحتاج إلى تحديد وفرض حقوق وواجبات المعلم، حيث يكافأ المتميز ويعاقب المقصر، نحتاج إلى جلب أفضل الكفاءات التدريسية، محلية كانت أو أجنبية، نحتاج إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لتفعيل قرار مجلس الوزراء رقم (139) وتاريخ 26/4/1425هـ، بإلزامية التعليم الابتدائي، بل أن يكون التعليم إلزامياً حتى الثانوية على الجميع، مواطنين ومقيمين، كما تفعل الدول المتقدمة، ولكننا لا نحتاج إلى أشخاص دخلوا سلك التربية والتعليم للحصول على وظيفة آمنة وراتب فقط، وما أكثرهم، لا نحتاج إلى ثقافة المحسوبية والعلاقات الشخصية لمكافأة ذوي القربى والأصدقاء، ومن تربطنا بهم مصالح شخصية، وهي ثقافة سائدة ومدمرة، لا نحتاج إلى نشر ثقافة الدروس الخصوصية بسبب طريقة التعليم التقليدية، ولا نحتاج إلى الاعتماد على أشخاص في قيادة وإدارة وتطوير التعليم العام لا تتعدى خبرتهم التدريس في الصف. المعلمون والمعلمات يشاركون الأهل في تربية وتعليم أبنائهم، مما يحتم رضا الأهل وقبولهم لمعلمي أبنائهم، وهو موضوع جدل واختلاف واسع. نعم، هناك معلمون ومعلمات أكفاء ومخلصون، ولكنهم قلة، ومع احتكاكهم بزملائهم وتعاملهم ومعاناتهم مع المشرفين وطريقة التقييم والمكافأة التي لا تميز بين الصالح والطالح، يصابون بالإحباط فينضمون إلى المعلمين التقليديين، ويعتمدون كلياً على طريقة الحفظ والتلقين، كطريقة وحيدة للتعليم.
خلال الشهر الماضي، عقدت جامعة الملك سعود ندوة حول مدى ملاءمة مخرجات التعليم لسوق العمل، وهي مبادرة شجاعة ومشكورة للجامعة، مع أملنا بأن تمثل هذه الندوة بداية لسلسلة من الندوات وورش العمل للتحاور والمناقشة والمشاركة بين الأطراف المؤثرة في تطوير الموارد البشرية، ولأنها بداية، ورغم مشاركة جهات مثل الجامعة، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة العمل والمركز الوطني للقياس والتقويم، ورغم ما عرض ونوقش فيها من مواضيع ذات علاقة مثل مشكلة البطالة الحالية وتزايدها، وضرورة إنشاء جسر من التعاون بين الجامعات، وسوق العمل، سواءً من خلال توفير معلومات عن الخريجين أو تطوير البحوث والدراسات الخاصة بسوق العمل، إلا أننا كنا نود أن يتم مناقشة موضوع مدى تطوير وتأهيل المعلمين والمعلمات ودورهم في التعليم، ومدى توافر بيئة العمل المناسبة في وزارة التربية والتعليم لعمل المعلمين والمعلمات وتحفيزهم، ومدى الاستفادة من نتائج اختبارات قياس في تحسين العملية التعليمية داخل المدارس والجامعات، ومدى تنفيذ الجامعات لأسس ومبادئ الجودة الشاملة في برامجها التي تتطلب متابعة الجامعات لخريجيها وتقييمهم ومعرفة نقاط القوة وجوانب القصور لديهم وتوفير الدورات التدريبية التي تعالج قصورهم وتحدث معارفهم، ومراجعة برامجها في ضوء نتائج هذا التقييم، بالمشاركة مع وزارة التربية والتعليم.
في السنوات الماضية، تم تدشين عدد من المشاريع لتطوير التعليم العام في المملكة، منها مشروع ''وطني''، وآخرها مشروع الملك عبد الله لتطوير التعليم، والذي بدأ في عام 1426هـ، وخصص له تسعة مليارات، على أن يتم تنفيذه خلال ست سنوات، ومع مضي أكثر من أربع سنوات على بدئه، يحق لنا أن نتساءل عما تم إنجازه حتى تاريخه؟ فحسب الجدول الزمني، يفترض أنه قد تم إنجاز أكثر من 70 في المائة من المشروع؟ بينما تشير المعلومات المتاحة من موقع مشروع تطوير إلى أنه لم يتم تحقيق أي إنجاز في المشروع حتى تاريخه، بل إن الواقع يشير إلى أنه لم يتم البدء في المشروع حتى الآن، ولعل طرح رؤية واستراتيجية تطوير التعليم كأحد موضوعات النقاش في المركز الوطني للحوار حالياً يؤكد هذا الاستنتاج. كما أنه ليس من المقبول تجيير مشاريع تعليمية سابقة وحالية مثل مشروع تطوير مناهج الرياضيات والعلوم، رغم تحفظنا عليه، لمشروع تطوير. مشروع ''تطوير'' يشمل أربعة محاور تطويرية هي: المعلمون والمعلمات، المناهج، البيئة التعليمية، والنشاطات اللاصفية، والسؤال هو، ماذا تم بشأن هذه المحاور؟
مشروع تطوير التعليم ليس ملكاً لوزارة التربية والتعليم، وليس إدارة من إداراتها، ولا ينبغي أن تكون قيادة وإدارة هذا المشروع في يد الوزارة، ولا أن يكون غالبية العاملين فيه من منسوبيها، بل إنه مشروع وطني يتطلب مشاركة الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات والتعليم العالي والمهني في تطويره وصياغته وتنفيذه، مع قيادته وإدارته ومتابعته من قبل فريق أعلى ومستقل عن الجهاز الإداري في وزارة التربية والتعليم. ما يحصل حالياً في مشروع تطوير التعليم العام من عدم توفير شفافية في المعلومات عن سير وأداء المشروع، وعدم وضوح موقف المشروع، وعدم مشاركة الأطراف الرئيسة ذات العلاقة في التطوير والتنفيذ والمتابعة، ليس فقط غير مقبول، ولكنه يمثل مخاطرة في المشروع وإنذارا مبكرا لفشل المشروع، وبالتالي فشل لآمال المجتمع السعودي في تطور نظامه التعليمي، وتفويت الفرصة للحاق بالدول المتقدمة في هذا المجال. هناك حلول وقتية وحلول طويلة الأجل للتعامل مع مشكلة التعليم الرئيسة تتطلب منا تخصيص مقالات مستقلة لعرضها ومناقشتها، وهذا ما سيحصل ـــ إن شاء الله.
وللحديث بقية...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي