أجندة ثقيلة للتعاون الاقتصادي

قضايا عديدة تواجه الاقتصاد العالمي في المرحلة الحالية، تختلف تعقيداتها من دولة إلى أخرى، وتتفاوت بين الدول المتقدمة والناشئة، وبين الدول المتقدمة نفسها. كل دولة وأخرى تحاول مواجهة هذه القضايا التي نتجت بشكل رئيس عن الأزمة المالية العالمية. بل إن هذه التناقضات في مواجهة هذه المشاكل تظهر جلية على مستوى الدول نفسها وبين التيارات السياسية نفسها. هذا الحجم من التناقضات لم يسبق له مثيل، والسبب في ذلك، أن الاقتصاد العالمي لم يعد محكوماً بقوة واحدة، أو عدد محدود من القوى الاقتصادية الغربية. بل إن هناك قوى أخرى كالاقتصادات الناشئة تؤثر بشكل أكبر في الاقتصاد العالمي، وتحد بالتالي من قوة التأثير الغربية فيه. هذه التناقضات تفرض على الاقتصادات العالمية المهمة والمؤثرة في الاقتصاد العالمي، كدول مجموعة العشرين، أهمية التنسيق للتوصل إلى أرضية مشتركة يمكن بناء التعاون الاقتصادي عليها، وهو ما حصل في قمة سيئول الأخيرة التي وضعت أساسا للتعاون الاقتصادي بين دول المجموعة للمرحلة المقبلة، وذلك على الرغم مما يعتقده الكثيرون من فشل هذه القمة في تحقيق أهدافها.
لكن الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها الكثير ممن كتبوا في هذا الشأن في كبرى الصحف العالمية. فكما أشرت إلى أن ما تواجهه كل مجموعة اقتصادية، وكل دولة، من مشاكل يتناقض بشكل كبير مع غيرها من المجموعات الاقتصادية والدول الأخرى، مما يجعل مهمة التنسيق بين الدول صعبة جداً. فعلى مستوى الدول المتقدمة والنامية، تراوح هذه التناقضات بين تباطؤ في التعافي الاقتصادي في الدول المتقدمة، في مقابل تسارع في النمو في الاقتصادات الناشئة. ومخاوف من تراجع معدلات التضخم في الدول المتقدمة (الولايات المتحدة)، بينما تعاني الاقتصادات الناشئة من مخاوف تسارع معدلات التضخم (الصين)، فائض في ميزان الحساب الجاري، ونمو كبير في حجم الصادرات في الاقتصادات الناشئة، بينما تعاني معظم الدول المتقدمة من عجوزات في موازين حساباتها الجارية، نتجت بشكل أساسي عن تراجع حجم تجارتها العالمية.
بين الدول المتقدمة أيضاً هناك كثير من التناقضات، فدول ترى أهمية التعامل في الوقت الحالي مع موضوع تدهور أوضاع المالية العامة (أوروبا)، وأخرى ترى أهمية التركيز على موضوع التعافي الاقتصادي العالمي، والعمل على حفزه مالياً ونقدياً لضمان استدامة هذا التعافي (الولايات المتحدة). لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فالتدهور في ميزانيات بعض الدول المتقدمة تطورت إلى مخاوف إفلاس بعض هذه الدول، بينما تعاني هذه الدول نفسها من تراجع معدلات النمو الاقتصادي فيها. وهذا يفرض عليها الاختيار بين أمرين أحلاهما مر: إما تبني سياسات تقشفية لمعالجة مشاكل المالية العامة لديها، وهذا قد يفاقم من معدلات البطالة، أو الاستمرار في سياسات التحفيز لضمان زيادة فرص العمل، ومواجهة مخاطر تزايد الدين العام وتأثير ذلك في معدلات النمو المستقبلي فيها. كذلك تواجه الدول المتقدمة نفسها تناقضاً فيما يتعلق بالتعامل مع فائض ميزان الحساب الجاري، حيث تحقق بعض هذه الدول (ألمانيا واليابان) فائضاً في ميزان حساباتها الجارية، وهذا يجعلها تقف في هذا الموضوع بالتحديد في صف الاقتصادات الناشئة (وخصوصاً الصين)، عندما تعلق الأمر بوضع أهداف كمية لهذه الفوائض، لكنها تقف في صف الدول الغربية (وخصوصاً الولايات المتحدة) عندما تعلق الأمر بمرونة أسعار الصرف.
الاقتصادات الناشئة تعاني أيضاً من معضلة اقتصادية بسبب النمو الاقتصادي المتسارع لديها، وتتعلق بارتفاع تدفقات رأس المال إليها. فسياسة أسعار الفائدة المنخفضة التي تبنتها الدول المتقدمة لتحفيز اقتصاداتها أدت إلى تشجيع الاقتراض بهذه الأسعار المنخفضة، والاستثمار في الاقتصادات الناشئة التي رفعت من أسعار الفائدة لديها لتجنب ارتفاع معدلات التضخم بسبب ارتفاع وتيرة النشاط الاقتصادي فيها. وهذا بالطبع أدى إلى الضغط على عملات هذه الدول وجعلت بعضها مقوما بأعلى من قيمته الحقيقة، مما وضع هذه الدول بين خيارين: إما تخفيض سعر الفائدة للحد من تدفقات رؤوس الأموال، وهذا يؤدي بالتالي إلى توسع في النشاط الاقتصادي قد يفاقم من معدلات التضخم، أو تحمل تبعات هذا التدفقات التي ستؤدي إلى ارتفاع أسعار عملاتها وبالتالي انخفاض تنافسية منتجاتها في الاقتصادات العالمية. ولذلك، لجأت بعض هذه الدول إلى تدابير أخرى للحد من تدفقات رؤوس الأموال، كالتحكم في حجم هذه التدفقات وفرض رسوم عليها للتقليل من أثرها في تنافسية اقتصاداتها.
على مستوى الدول نفسها، هناك الكثير من التناقضات والرؤى المختلفة للتعامل مع مشاكل ما بعد الأزمة، وهذا يؤثر بالتأكيد في المواقف الرسمية للدول عند التعامل مع هذه القضايا. خذ على سبيل المثال موقف العامة وممثلي الأحزاب وجماعات الضغط من حزمة التيسير النقدي الكمي التي تبناها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لحفز الاقتصاد الأمريكي ولتجنب تراجع معدلات التضخم. وتأمل ما سيكون عليه موقف الرئيس الأمريكي للتعامل مع عديد من القضايا التي تواجه الاقتصاد الأمريكي بعد خسارته في الانتخابات النصفية الأخيرة. تأمل في أوروبا التي تبنت أولوية تسوية أوضاع المالية العامة فيها، وما تواجهه حالياً من صعوبات لتحقيق ما نادت به. ففي اليونان تستمر المظاهرات إلى الآن لمواجه الحكومة التي فرض عليها الاتحاد الأوروبي تبني تدابير تقشفية طالت كل شيء حتى المنافع التقاعدية. فرنسا التي حملت لواء التسوية المالية، انفجرت فيها المعارضة عندما تبنت أول خطوة لتحقيق ذلك برفع السن التقاعدي عامين فقط. الرئيس الياباني خسر أغلبية في البرلمان بسبب حديثه فقط عن زيادة ضريبة الاستهلاك للتعامل مع عجز الموازنة.
هذه فقط بعض من التناقضات التي خلفتها الأزمة العالمية فيما يتعلق بالأهداف الاقتصادية للدول والمجموعات الاقتصادية، حيث أدت إلى نوع من النمو غير المتوازن بين الدول المتقدمة ودول الاقتصادات الناشئة، مما أدى إلى اختلاف في الأهداف التي تسعى كل دولة إلى تحقيقها. لذلك، يجب ألا نقلل مما توصلت إليه قمة سيئول من نتائج، في هذا الكم من التناقضات، حيث وضعت أساساً للتعاون في التعامل مع قضايا لم يكن الحديث عنها مقبولاً في السابق كالتعامل مع ارتفاع الفوائض والعملة في الصين والسياسة النقدية لدول عملات الاحتياط، مما سيمهد الطريق إلى نقاش بناء في المستقبل حول هذه القضايا في المستقبل، ودور مهم ومحوري لدول مجموعة العشرين في حل هذه القضايا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي