هموم المهندسين والمقررات الجامعية

يشهد عصرنا الحالي تطورا مذهلا في مختلف المجالات التقنية والهندسية أدى إلى نهضة حضارية مادية مذهلة تسعى إلى تحقيق متطلبات الإنسان الحديث ورفاهيته في جميع جوانب الحياة. ولا شك أن أحد أهم وأبرز قادة هذا التطور هم المهندسون بشتى تخصصاتهم المختلفة, الذين يُعدون فرسان التطور الحضاري المادي الحديث. ومن هنا يبرز دور المهندس المحوري في حضارة وتطور المجتمعات الإنسانية الحديثة, لذا كان لا بد من الاهتمام الذي يتزايد من قبل الأمم والشعوب بهذه الفئة المهمة، فكان لهم من الاهتمام الكبير بالتعليم والتوظيف والمميزات التي قد لا تتوافر لبقية التخصصات على أهميتها وحساسيتها.
وفي بلادنا الغالية, وهي التي تمر بثورة تنموية إنشائية من حيث المشاريع التنموية الكبيرة من المدن الصناعية والمراكز البحثية والجامعات والمباني, تظهر الحاجة الماسة إلى دور المهندس السعودي, الذي أولته المملكة اهتماماً واضحاً منذ بداية الثمانينيات الهجرية ممثلاً بالذات في التعليم الهندسي.. لكن لا تزال كثير من همومهم ماثلة للعيان, خصوصاً في القطاع الحكومي, أبث شيئاً منها إلى القراء الكرام وإلى كل مسؤول يعمل في خدمة البلاد وشعبها الكريم وهي كما يلي:

أولاً: هموم مرحلة التعليم الجامعي
تعد كليات الهندسة في جامعاتنا القديمة والحديثة أبرز الكليات التي يتوجه إليها شريحة متميزة من أعلى المعدلات لطلاب المرحلة الثانوية, فهي تكتظ بالأعداد الهائلة من الطلاب, وهذه ظاهرة صحية تبشر بمستقبل واعد للمملكة، لكن هذه المرحلة وهي مرحلة أساسية وحرجة في بناء المهندس السعودي, وهي أهم المراحل في ضمان جودة مخرجات التعليم الهندسي .. من أبرز هذه السلبيات ما يلي:
• التركيز على العلم النظري في التصاميم والمواد الأولية والمكونات الهندسية الدقيقة على أهميتها دون الاهتمام المماثل بالتطبيق العملي فيخرج المهندس بمعلومات ونظريات في الغالب ــ ومع الأسف ــ وبالذات في مجتمعاتنا المستهلكة لا يمكن بحال من الأحوال تطبيقها والاستفادة منها، فلا توجد ــ على الأقل في السنوات التي درست فيها ــ مناهج تطبيقية للصيانة مثلاً، أو لإدارة المشاريع على أهميتها وقربها من المهندسين, ولم يعلم كيفية البحث العلمي وأدواته ومنهجياته, فيبقى مهندساً اسماً لا حقيقة!
• يتخرج المهندس وغالباً على الأقل في القطاع الحكومي ليشغل وظائف هندسية إشرافية وإدارية وقيادية، فيفاجأ بها وليس لديه من الأدوات والمهارات الأساسية والمخزون المعرفي من مفاهيم الإدارة والتواصل والقيادة شيء يذكر, فهو لا يعرف حتى يقود اثنين من الموظفين فكيف بمشروع يضم داخله عشرات, بل أحياناً مئات الموظفين والعاملين؟! فأين المناهج التي تفيد المهندس وتغذيه معرفياً في حياته العملية، وتعينه على أداء رسالته التنموية فيها، فهو لم يدرس أصول الإدارة ومفاهيمها، ولم يعرف عن الجودة وتطبيقاتها، ولم يسمع عن مهارات الاتصال وأدواتها، ولا يفهم مراحل التخطيط ولا استراتيجياتها، وإدارة الأخطار وأنواعها, ولا يعرف عن نقل التقنية وتوطينها شيئا, (وإن كان قد بدأت بعض الاجتهادات من قبل بعض الجامعات في هذا الشأن) فكيف يكون مهندساً متميزاً متهيئاً للحياة المهنية التي تتوقع منه الكثير والكثير؟ .. أليس ذلك واقعاً مراً؟!
• في الحقيقة يتسم المهندس السعودي المتخرج في كليات الهندسة المعتمد فقط على المناهج الدراسية ــ في الغالب ــ بضعف شديد في مستوى اللغة الإنجليزية محادثةً وكتابة, ويعلم هذه الحقيقة المؤلمة القطاع الخاص الذي يتعامل بها في بيئة العمل, ولذلك فكثير من المنشآت تقوم بإدخال المهندسين الجدد في برامج تطويرية ترتكز على تطوير مهاراتهم اللغوية في اللغة الإنجليزية. وهنا أحيي جامعة الملك فهد على تميُّز طلابها نسبياً في مستوى اللغة الإنجليزية عن بقية خريجي كليات الهندسة في بقية جامعاتنا.
• على الرغم من الأعداد الهائلة من الطلاب المستجدين في كليات الهندسة, وبالذات في جامعاتنا المتقدمة كجامعة الملك فهد، وجامعة الملك سعود، وجامعة الملك عبد العزيز, إلا أنه يتساقط منهم الكثير أثناء الدراسة لعدم تمكنهم من فهمها وهضمها، فينسحب منهم نسبة كبيرة ــ ومع الأسف ــ لا توجد إحصائية منشورة لذلك, فإما أن يفصلوا من الجامعة، وإما أن يتحولوا إلى كليات أقل من طموحهم وطموح آبائهم ومجتمعاتهم، وإما أنهم يتخرجون بمعدلات ضعيفة جداً لا تؤهلهم للتوظف في منشآت متميزة سواءً كان في القطاع الخاص أو القطاع العام, فيصبحون ــ مع الأسف ــ عالة على أولياء أمورهم وعلى مجتمعهم؟ فما هي يا ترى أسباب ذلك؟ هل هي صعوبة التعليم الهندسي أم عدم مصداقية معدلات الثانوية ودقتها؟ أم هي بسبب النظام التعليمي الهندسي الذي يفتقد الاهتمام بالجوانب التربوية لمهندسي المستقبل ومتابعة مستوياتهم وتحفيزهم, وذلك بسبب عدم وجود مؤهلين من هيئة التدريس لذلك أو لعدم وجود مناهج تهتم بذلك؟

ثانياً: هموم المرحلة العملية
• يمضي المهندس في معظم التخصصات الهندسية أكثر من خمس سنوات من الجد والاجتهاد والهموم، ليحقق طموحه الذي طالما عايشه وأكل معه وشرب، في حصوله على وظيفة محترمة تدر عليه مالاً وفيراً ومكانة اجتماعية بارزة لينادى بسعادة المهندس .. وإذا به ــ في كثير من الأحيان ــ يفاجأ بوجوده في طابور العاطلين وقطار المنتظرين الذين لا يجدون سوى الانتظار الممل القاتل الذي يصيبه بالهم والغم!
• وعندما يوفق في وظيفة في القطاع الحكومي وإذ به تنتابه موجة من الإحباط نتيجة عدم موافقتها مجال تخصصه الذي درسه، ولضعف العائد المادي الذي لا يتناسب البتة مع الجهد المبذول أثناء المرحلة الدراسية، فالمهندس يعين في بداية حياته الوظيفية على المرتبة السابعة بما لا يزيد على مبلغ وقدره 5840 ريالا، ولا يساوي عناء السنوات الخمس التي قضاها في الدراسة, ولو أنه توظف بعد الثانوية لتمكن من الوصول إلى هذا المبلغ مع سنوات خبرة إضافية .. فكيف نريد من المهندس الإبداع والعطاء والأمانة والدقة والإخلاص والإنتاجية والجودة ... إلخ .. هيهات ثم هيهات!.
• على الرغم من أن المهندسين هم فرسان التنمية التقنية والإنشائية الحضارية، إلا أنهم لا يزالون دون كادر يعطيهم حقوقهم ومكانتهم المادية والمعنوية في المجتمع، فهم لا يزالون على المرتبة السابعة ابتداءً، بينما الأطباء والقضاة والمعلمون والعسكريون والممرضون وأعضاء هيئة التدريس في الجامعات ... إلخ, لهم كوادر خاصة ومميزات عالية يستحقونها ولا شك، أما المهندسون فلا بواكي لهم .. فأين كادرهم الخاص الذي طالما سمعنا عنه منذ أكثر من 20 عاماً .. فإلى متى يا قوم؟!
ثالثاً: همومهم تجاه
الهيئة السعودية للمهندسين
لا شك أن لكل شريحة في المجتمع وزارة ترعاها وتهتم بها, وهذا جميل ورائع جدا, فالقضاة لهم وزارة العدل، الأطباء لهم وزارة الصحة، المعلمون لهم وزارة التعليم، وأعضاء هيئة التدريس في الجامعات لهم وزارة التعليم العالي، وأما المهندسون فمن لهم؟! بالطبع كلنا سيقول الهيئة السعودية للمهندسين.. وأنعم .. وأكرم .. لكنها ــ مع الأسف ــ هيئة أهلية لها إمكانات وقدرات محدودة, على الرغم من النجاحات الجيدة التي نذكر لهم فتشكر, لكنها بالتأكيد لم ولن تستطيع تحقيق رضا وطموحات المهندسين! خصوصاً مع وجود الضعف الإداري فيها، والنقص في الموارد المالية لها ومحدودية النشاط والتأثير، وعدم الاقتناع بدورها المتوقع منها.

رابعاً: همومهم تجاه المؤتمر الهندسي السعودي
تتواصل مسيرة المؤتمر الهندسي السعودي منذ أكثر من 28 عاماً منذ تدشين أول مؤتمر هندسي سعودي عام 1402 هـ في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، حتى المؤتمر الهندسي السعودي الثامن, الذي سيقام ــ بإذن الله تعالى ــ في المحرم 1433هـ في منطقة القصيم بتنسيق كلية الهندسة في جامعة القصيم الفتية، بالتعاون مع الهيئة السعودية للمهندسين. وهذا المؤتمر من المفترض أن يكون مصدراً مهما من مصادر تطوير المهندسين بكل جديد من المعرفة الهندسية والتطوير التقني المتسارع، وكذلك مناقشة هموم المهندسين ومشكلاتهم ووضع الحلول العملية ومن ثم التوصية بتنفيذها ومتابعتها, لكن يبدو أن ذلك إنما هو صورة وردية للمؤتمرات الهندسية الوطنية، فأغلب المهندسين لم يسمعوا بهذا المؤتمر قط، ولم يشاركوا فيه، ولم يحضروا فعالياته، ولم يستفيدوا منه بشيء، ولم يصل حرصهم على متابعته وانتظاره والمساهمة الفاعلة فيه لا بأوراق عمل ولا بدورات تدريبية، ولا حتى بقراءة ما يخصهم من أوراق العمل المقدمة.. ويمكننا التأكد من صحة هذا الادعاء بعمل عمليات حسابية بسيطة لنسب الحضور الحقيقية في المؤتمرات السبعة الماضية مع عدد المهندسين السعوديين! فأين الخلل يا ترى؟ ولذلك أقترح كخطوة عملية على اللجنة العلمية, وأعضاؤها ــ ولله الحمد ــ هم أصحاب كفاءات علمية وحس وطني صادق ــ نحسبهم والله حسيبهم ــ المكلفة باختيار أوراق العمل وتنظيم برنامجه العلمي, الخروج من التكرار الممل للمؤتمرات وأخطائها بعمل ندوات تناقش هموم المهندسين وإشراكهم عملياً في ذلك، ومن ذلك عمل استبيان مبكر ودقيق على صورة تحليل SWOT، ومن ثم عرضه في تلك الورش.
وأخيراً وليس آخراً, فشريحة المهندسين في القطاع الحكومي ترفع رجاءها بعد الله ــ عز وجل ــ إلى خادم الحرمين الشريفين نصير العلم والمعرفة وقائد التنمية في بلادنا العزيزة, ففي زمانه تم تكريم الأطباء وأساتذة الجامعات والقضاة وكثير من شرائح المجتمع, بأن يتفضل عليهم بإقرار الكادر الجديد للمهندسين, ولن ينسوا له ذلك الفضل أبداً ــ بإذن الله تعالى ــ وسيكون وساماً على صدورهم ونوط شرف يفتخرون به, فالمهندسون لا يطلبون سوى ما يعطيهم حقوقهم التي تليق بهم وتعينهم على تقديم الواجبات المنوطة بهم، والمساهمة الفاعلة في قطار التنمية الوطنية المتنامية، لنرى مشاريعنا الوطنية قد نفذت كما خطط لها بجودة عالية، وبدقة متناهية، وبتكاليف غير باهظة، ومن العيوب والأخطاء والتجاوزات خالية!.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي