عندما يأتي الأضحى المبارك..!

عندما يبدأ الحاج المناسك بالإحرام وأبرز ما فيه، استبدال جميع ملابسه المعهودة‏,‏ بما يستر عورته على أن يكون غير مخيط‏؛ - فإن ذلك يذكِّره برحلة الإنسان إلى الدار الآخرة بملابس، هي الأقرب إلى الأكفان، كما يذكِّره أيضًا بالعداء الدائم بين الإنسان والشيطان‏، والتحذير من أية غفلة أو تجاهل لهذا العدو‏، إضافة إلى التذكير بأقسى النتائج التي تؤدي الاستجابة إلى وسوسته إليها‏،‏ وهذا جانب لابد للحاج من الوعي به وفهمه في عموميته وشموليته.
وعندما يستدير الزمان ويمضي ويعود كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ويكمل العام القمري دورته، إيذانًا بالوقوف على عرفات الله يوم الحج الأكبر، الذي اكتمل فيه الدين وأتم الله به النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا‏..،‏ وحيث وقف النبي محمد ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ على صعيد عرفات الطاهر خطيبًا في الحجيج في الحجة الوحيدة في حياته قبل التحاقه بالرفيق الأعلى بشهور قليلة؛ وليعلن في حجة الإسلام للإنسانية كافةً أول إعلان عالمي شامل كامل ومتكامل لحقوق الإنسان كافةً‏؛ وضع حرمة الدم والمال والعرض وأداء الأمانة واستئصال شأفة الربا,
‏وعندما يقف الحجيج، يوم عرفة يوم الحج الأكبر يوم البراءة من الشرك، وهذه هي أولى فلسفات وحكم ومقاصد الشريعة في الوقوف بعرفة؛ وعندما يجتمع قرابة أربعة ملايين مسلم في صعيد عرفات بلباس واحد؛ ونداء وتكبير واحد؛ ودعاء واحد؛ وقد اختفت الألقاب وتلاشت المكانات؛ وعزَّ الجاه والسلطان والمال‏,‏ جاؤوا شعثًا غُبرًا، يرجون الله حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا ودعاءً مستجابًا, وأن يعودوا وقد محيت صحيفة سوابقهم من الذنوب والخطايا، عدا حقوق العباد التي لا تسقط , كما يعتقد البعض إلا بسماح أصحابها فيها أو ردها أو التعويض عنها‏، عندما يحدث ذلك، فإنما هو تأكيد على أن البشرية كافةً لم تعهد عبر تاريخها الطويل، مثل هذا المؤتمر السنوي، الذي لا يوجد مكان على وجه الأرض حتى الدول الكبرى ــــ يستطيع أن يستوعب أعداد هؤلاء الحجيج، الذين يحضرون مؤتمرًا في وقت واحد ومناسك واحدة.
وعندما يختص الله تعالى، المسلمين وحدهم بالبيت العتيق، الذي رفع قواعده خليله أبو الأنبياء، إبراهيم عليه السلام، دون بقية الديانات السماوية الأخرى، وعندما يسخر، سبحانه وتعالى، حكام الأراضي المقدسة عبر الأجيال لخدمة الحجيج، ضيوف الرحمن وما تقدّمه حكومة خادم الحرمين الشريفين من الخدمات التي تفوق الوصف، ومن العمارة والتوسعات والتيسيرات، تعطي خير شواهد على حكمة الله في خلقه، ما يستوجب الفخر والإعزاز لانتمائنا لهذه الأراضي الطيبة المعطاءة.
عندما يجتمع المسلمون في صعيد عرفات الله الطاهر، ونحتفي بعيد الأضحى المبارك، عيد التضحية والفداء وبأيام التشريق الثلاثة والمشاعر المقدسة، وفي رحاب الكعبة العصماء؛ معتصمين بحبل الله جميعًا، تاركين الشحناء والبغضاء، آخذين بوصايا نبيهم ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ فإنما يعني ذلك أن يشغل المسلم دومًا باله بالعمل الصالح؛ وعمارة الأرض، كأمور مفصلية في تقويم الإنسان واستعماره فيها، واستذكار لتحذير الرسول الكريم ــــ صلى الله عليه وسلم ـــ من أن نعود كفارًا يضرب بعضنا رقاب بعض‏, واستلهام أيضًا لما حدّده ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ من قيم وتعاليم ومعالم طريقه والعلامات الدالة على الطريق.
وعندما يرتبط عيد الأضحى,‏ بقيمة إيمانية وإنسانية‏,‏ عظيمة هي التضحية‏.‏ وهي قيمة يحض عليها الإسلام؛ فإنما هي دعوة للإنسان المسلم بوصفه كائنًا اجتماعيًا،‏ ووجوده وسط الجماعة‏,‏ يجعله جزءًا منها‏ ــــ لأن يكون مسؤولاً بالمساهمة في الأعمال التي تفيد جماعته ووطنه,‏ معطيًا الأولوية للمصلحة العامة حتى لو تعارضت مع مصلحته الشخصية‏,‏ نابذا الأنانية، وناكرا ذاته في سبيل خير الوطن والمجتمع‏.
وعندما يعبّر إيمان الحجيج عن نفسه، من خلال شعائر ومناسك وطقوس‏؛ فإنه ‏ لا يكتمل ولا تتحقق غايته وجدواه‏,‏ إلا إذا تواكب هذا الأداء الخارجي وتوافق‏,‏ مع فعل آخر‏,‏ يحدث داخل النفوس‏,‏ ويملأ الوجدان والضمير نورًا وخيرًا وينزع النفس بالمثل العليا والقيم النبيلة وصفاء الصدق وشفافية الإيمان، ليصبح العيد محطة، مهمة تلتقط فيها الأنفاس اللاهثة‏، وترتاح فيها من خوض السباق اليومي المحموم‏,‏ وللترفيه عن النفس‏؛ ما يساعده على تجديد النشاط؛ والقدرة على استئناف العمل من جديد‏.‏ هذه الوقفة محطة مهمة للراحة قليلا قبل متابعة السير في طريق الحياة‏,‏ ومثل هذه المحطات، تمثل بالنسبة للشعوب أعيادًا، يحتفلون بها ويبتهجون‏,‏ ويعبرون عن سعادتهم بما تحقق‏,‏ ويأملون في تحقيق المزيد في المستقبل‏؛ فحياة الإنسان في هذه الدنيا، سلسلة متواصلة من الكفاح في مواجهة الكثير من العقبات التي تعترض طريقه في سبيل تحقيق آمال وطموحات البشر‏,‏ والإنسان بطبيعته إذا حقق إنجازًا شعر بفرح غامر وسعادة بالغة‏,‏ وحتى يستعد لتحقيق إنجاز جديد فهو في حاجة إلى وقفة يلتقط فيها أنفاسه‏,‏ ويستريح من عناء العمل‏.
وعندما احتشد، ضيوف الرحمن، من كل أنحاء الدنيا فوق عرفات الله, في مؤتمرهم السنوي الكبير الذي يتكرر كل عام ليذكر المسلمين‏,‏ والعرب‏,‏ بماضيهم المجيد‏؛‏ ليأخذوا منه للحاضر والمستقبل‏، وعندما تجمّعت مشاعر أمة العرب والإسلام في عيد الأضحى المبارك على هتاف واحد هو التضحية والفداء والتكافل الاجتماعي والأمن والسلام الإنساني للبشر جميعًا ـــــ تحتشد الذكريات في القلوب والعقول لتعلن بوضوح‏:‏ أننا أمة واحدة‏,‏ ما اجتمعت يومًا على كلمة واحدة وهدف واحد‏,‏ إلا كان النصر حليفها‏,‏ في كل ميادين الحياة‏..‏ كأمة,‏ لها مقومات التوحد وعناصر تحقيقه‏,‏ على الرغم من أن واقع العالم المعاصر، لا يقيم وزنًا إلا للكيانات الكبرى المتناغمة‏؛ ما‏ يفرض علينا أن نركز على مفردات هذا التوحد‏.
إن يومي الحج الأكبر، والأضحى فرصة، يجب ألا تمر دون وقفة مع الذات، نراجع فيها أنفسنا ومستقبلنا‏,‏ إذا كنا جادين، بالفعل، في صياغة مستقبل عربي يسوده التعاون والتضامن، يقف في شموخ.
كل عام والسعودية، في تقدم وازدهار دائم، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين، والنائب الثاني، حفظهم الله. وكل عام وأمتيها العربية والإسلامية في خير وتقدم‏...‏

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي