الإصلاح الإداري في المملكة: مشروع الحج أنموذجا!

منذ نشأة المملكة العربية السعودية على يد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـــ رحمه الله ـــ والمملكة تعمل بشكل مستمر على تطوير وتحسين العمل الإداري داخل القطاعات الحكومية المدنية والعسكرية، حيث كانت أجهزة الدولة، في البداية، تنشأ نتيجة ظروف أو احتياجات طارئة، إلى أن تم إنشاء اللجنة العليا للإصلاح الإداري في الستينيات الميلادية، وتلاها تشكيل لجنة التطوير الإداري في التسعينيات الميلادية، برئاسة ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء الأمير سلطان بن عبد العزيز ـــ حفظه الله ورعاه ـــ وبدعم إداري وبشري ومالي من معهد الإدارة العامة، مقر الأمانة العامة للجان التطويرية والإصلاحية، وبقدرات وخبرات وطنية متميزة؛ بهدف تطوير الجهاز الحكومي وتحديثه، وتحسين كفاءة وفاعلية الأداء في الأجهزة الحكومية، وتطوير الأنظمة واللوائح المالية، وتطوير أنظمة الموظفين، وتحسين مستوى أداء أجهزة الرقابة، ودراسة واقتراح خيارات التخصيص، والعمل بأسلوب تجاري، مع دراسة ما يحال إليها من مقترحات تنظيمية.
وقد عملت هذه اللجان على مدى أكثر من 45 عاما على تقديم حلول تنظيمية لعدد من القطاعات، مركّزة على دراسة تفعيل القطاعات، وترشيد النفقات، مع فصل التخصصات والتداخلات بين الوزارات، كما حصل في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وأيضا فصل المياه عن الزراعة، ودمج بعض القطاعات الحكومية كما حصل في التعليم والصناعة، وإلغاء وزارات مثل وزارة الأشغال العامة والإسكان، وإنشاء جهات حكومية تنظيمية جديدة مثل هيئة الغذاء والدواء واستحداث وكالات التطوير في الوزارات، محققة نجاحات وطنية مستحقة، وما زال هناك المزيد من التطوير المطلوب والمتوقع. حيث إن هذه اللجان قد مضى عليها أكثر من 45 عاما من العمل المستمر والدؤوب، فقد يكون من المناسب النظر في وتقييم الوضع التنظيمي الراهن لمجموعة من الجهات الحكومية لتحديد النموذج المناسب للتطوير التنظيمي في المراحل المقبلة، وحيث إننا في موسم الحج، فليس أفضل من مناقشة الوضع التنظيمي لوزارة الحج.
نتيجة للتطوير الإداري، تم فصل أعمال الحج عن الشؤون الإسلامية والأوقاف، ليتم إنشاء وزارة مستقلة لكل منهما. وإذا نظرنا إلى أعمال ونشاطات الحج، فإنه يلاحظ بأنها تتركز حول أيام معدودة (من 5 إلى 6 أيام)، أما بقية أيام السنة، فلا يوجد أي نشاط أو عمل آخر تقوم به الوزارة، وخصوصا بعد فصل أعمال الشؤون الإسلامية والأوقاف. وبعملية حسابية بسيطة، فإن وزارة الحج تبقى دون عمل لمدة 360 يوما تقريبا، أو (99 في المائة) من أيام السنة، فهل عمل أسبوع يتطلب تخصيص وزارة وتخصيص ميزانية ومجموعة من الموظفين... إلخ؟ وحتى لو أضفنا عمليات التهيئة والتحضير لمشروع الحج، فليس من المعقول أن تأخذ أكثر من شهر أو نحوه، ولكن حتما ليس على مدار السنة. كما أنه ليس من الواضح ماهية ودور وزارة الحج في الحج، هل هو دور تنظيمي لأعمال ونشاطات الحج؟ أو دور أمني مروري وجوازات؟ أو دور تثقيفي شرعي؟ أو دور تنظيمي للسكن؟ أو دور تنظيمي لإدارة مشروع الحج؟ والإجابة لجميع هذه الأسئلة تقودنا إلى ضرورة وضع تعريف دقيق للحج، هل هو تنظيم لمشروع أم تنظيم لوزارة؟
جميع أعمال تنظيم الحج الأمنية والمرورية والجوازات والتصاريح والدفاع المدني تقوم بها وزارة الداخلية، وبشكل متكامل، ولا دور لوزارة الحج في هذه الأعمال. فمنذ قدوم الحجاج، يتم استقبالهم من قِبل الجوازات، لينتقلوا إلى سكنهم، ولأيام معدودة، يقومون بأداء مناسك الحج، والتي تمثل مراحل مشروع الحج، من طواف القدوم، والوقوف في عرفة، ورمي الجمرات، والهدي، وطواف الوداع... إلخ. فالجوازات تقوم بإصدار تصاريح الدخول للحجاج الداخليين والخارجيين، بينما تقوم إدارة المرور بتنظيم حركة المرور بين المشاعر؛ لتضمن انسياب الحركة في مناطق المشاعر، كما تقوم المديرية العامة للدفاع المدني بمراقبة ومتابعة والتأكد من سلامة المباني السكنية والمخيمات، مع الاستجابة لأي حوادث مثل الحريق ـــ لا سمح الله، إضافة إلى بعض الأدوار الأخرى التي تؤديها بعض الأجهزة الأمنية الأخرى التابعة لوزارة الداخلية مثل الشرطة؛ مما يشير إلى أن أغلب أعمال ونشاطات الحج تعتمد بشكل كبير وأساسي على أجهزة وزارة الداخلية. أما المهام والأعمال المنوطة بها وزارة الحج مثل عملية تنظيم وإدارة مؤسسات الطواف، وتنظيم أعمال الحج الداخلية والتنسيق مع الجهات الحكومية الأخرى، قبل وخلال فترة الحج، فهي عمليات يغلب عليها طابع المشروع، وليس الوزارة أو الوظيفة.
ينبغي التفريق بين المشروع والعمل الروتيني، فالمشروع هو عملية أو نشاط مقيد بزمن، حيث يبدأ بتاريخ معين وينتهي بتاريخ معين، ويتم القيام به مرة واحدة فقط، بغرض تطوير وتوصيل منتج ما أو خدمة ما، وكلها لغرض الحصول على قيمة مضافة. ويجب التفريق بين المشروع، والذي يتصف بأنه أمر مؤقت، وبين ما تتصف به العمليات التشغيلية الروتينية التي تجري بشكل دائم ومكرر من أجل تقديم منتج معين أو خدمة بشكل مكرر. ويمكن القول بشكل عام، إن كل العمليات الخارجة عن العمل الوظيفي (الوظيفة) اليومي، تمثل مشروعا أو جزءا من مشروع. وهذا ينطبق تماما على ''مشروع'' الحج، فالحج لا يتكرر يوميا، بل إنه يحصل مرة في السنة، ولعدة أيام قليلة، أقل من ستة أيام؛ مما يتطلب التعامل معه على أنه مشروع، إضافة إلى تعدد الجهات ذات العلاقة بمشروع الحج (أطراف الحج)، منها على سبيل المثال وزارة الداخلية بجميع قطاعاتها، ووزارة الشؤون البلدية والقروية، ووزارة الشؤون الإسلامية، ورئاسة الحرمين الشريفين، وإمارة منطقة مكة المكرمة، ووزارة الصحة، ووزارة النقل.
حسب هذه المعطيات، فإن إدارة وزارة الحج بمواقعها وأجهزتها وموظفيها وغيره على مدار السنة، تفتقد عنصري الكفاءة والفاعلية، في ظل تعريف مشروع الحج ووقوعه في فترة زمنية جدا محدودة، بمعنى أنه لا يوجد عائد مجزٍ على تكبد الدولة للتكاليف الرأسمالية والتشغيلية الخاصة بوزارة الحج على مدار السنة، ناهيك عن تخصيص مبالغ أخرى للجهات الحكومية الأخرى للصرف منها على أعمال الحج. كما لا يفوتنا أن ننوه بأن الحج أيضا يمكن أن يسهم في رفع إيرادات المملكة غير النفطية، من خلال الخدمات التي تقدمها جميع القطاعات للحجاج والمعتمرين؛ مما يتطلب ضرورة العمل على الحج بصفته مشروعا، له ميزانية وتكاليف محددة وله في المقابل إيرادات ينبغي التخطيط لها وإدارتها بطريقة احترافية.
يمثل ''الحج'' أحد المواضيع التنظيمية الملحة التي ينبغي إعادة النظر في طريقة تمويلها وإدارتها وتنفيذها، ولعلنا في مقالات قادمة، نستعرض ونناقش النموذج المناسب لتطوير أعمال الجهات الحكومية وإعادة هيكلتها للسنوات العشر المقبلة، بما يضمن تحسين كفاءة وفاعلية الأداء في الأجهزة الحكومية.
وللحديث بقية...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي