الاحتكار والاستثمار
إن من أبرز الاحتكارات في النشاط التجاري، هو ما يخص الوكالات والعلامات التجارية للصناعات المختلفة، كالسيارات وقطع غيارها، الأجهزة الإلكترونية، الكهربائية، الأدوات، مواد البناء وحتى الغذاء والدواء وسائر المواد الاستهلاكية. إذ غالبا ما يرتبط مصدر بيعها وتوزيعها وتسويقها وما يتصل بها من خدمات بعد البيع، بوكيل محدد تلجأ إليه البلد كلها، وتعلق عليه الأمل في توفيرها والوفاء بالالتزامات المترتبة عليها كالصيانة وقطع الغيار وتنفيذ شروط الضمان دون مبالغة في الأسعار.
التجربة التي عاناها الناس (خصوصا في قطاع السيارات) ظلت إلى اليوم مريرة، فبعد حرص الوكيل على تسويق البضاعة بربح يفوق عادة الحدود المعقولة تتبخر وعود تأمين الصيانة أو قطع الغيار أو ترجمة الضمان، فالوقت للإصلاح قد يتمدد شهورا في الورشة فضلا عن المبالغة في المقابل المادي للصيانة وأسعار قطع الغيار أو عدم توافرها.
الشيء ذاته يحدث في سلع أخرى، وبالذات الضرورية كالغذاء والدواء، فالخطة التموينية التي تحدثت عنها وزارة التجارة إبان تصاعد أسعار الأرز لم تترجم على أرض الواقع على نحو يلمسه المستهلك سواء في انخفاض الأسعار أو في الكف عن المراوغة بسياسة التحكم في مقدار المعروض في المواسم والمناسبات وهي مراوغة تنطبق على مجمل الأنشطة والسلع، كما حدث للأسمنت والحديد وحتى الطحين!
إضافة إلى ما سبق.. دخلت (لوبيات) العمالة الوافدة ممارسة للاحتكار (بحذاقة) من خلال تكتيك التستر الذي يعمدون في ظله إلى التحكم في سلع وأنشطة بعينها، فضلا عن قواها البشرية التي تدفع بها للاستحواذ على أعمال أو خدمات يتم تنفير أبناء الوطن وغير جنسياتها منها لقفل الدائرة عليها من ناحية سوق العمل في كامل المجال، تدير بقالات ومحطات بنزين أو مشاحم وخردوات وغيرها من المحال، كما تسيطر على نوع من المهن ما يسمح لها بالتحكم في نوع البضاعة أو النشاط وفرض العمالة والسعر، من ناحية أخرى.
كما شكل فيض التراخيص التي أصدرتها الهيئة العامة للاستثمار الأجنبي، مصدراً للاحتكار سواء في مستوياته العليا أو المتدنية، فلا هي قدمت قيمة مضافة لاقتصادنا الوطني ولا هي قامت بالإسهام في السعودة، وإنما انغلق صاحب كل ترخيص على مصالحه الذاتية.. الكبير منها يسلك سلوك المقاول العابر وليس المستثمر بينما يتطفل الهامشي منها كالعلق معوقا منشآتنا الوطنية الصغيرة أو طاردا لها!
في خضم تلاطم مصالح هذه الاحتكارات تبرز ظواهر سلبية عديدة تشوّه سلامة النشاط الاستثماري وتهدده بمخاطر جمة، فعلاوة على أن الاحتكار بذاته هو وسيلة غير قانونية وغير أخلاقية تستغل حاجة الناس وسلب أموالهم بالمبالغة في السعر وبالتالي إحداث نسبة تضخم زائفة، فإنه كذلك يعمل على اعتلال السوق بالمتلاعبين والمستهترين بالحقوق وإفساده بالإغراق أو ببضائع مغشوشة وصناعات مقلدة وعلامات مزيفة تؤدي إلى تعريض المستهلك وربما محيطه من بشر وممتلكات لمخاطر وأضرار، فيما يؤدي احتكار الاستثمار الأجنبي إلى تشوه هيكلي في بنية الاقتصاد الوطني يحرمه فرصته التاريخية في أن يكون اقتصادا حقيقيا منتجا تم فعلا توطينه واستنباته مع وجود فرص عمل نوعية.
هذه الاحتكارات تترك بيئة الاستثمار المحلي غير مأمونة لوقوعها تحت تجاذبات ومضاربات عشوائية انتهازية تغافل القوانين والأنظمة أو تستقوي بتراخيها فيما عينها فقط على الكسب ولا غير، ما يبقي سوقنا مفتوحة أبوابها على رياح الصدف لا تملك الحصانة ضد ظروف طارئة أو مفتعلة، وقد عايشنا مرارا كيف ارتبكت سوقنا وأربكت معها كل المستهلكين.. وذلكم واقع أحوج ما يكون إلى تقييمه من قبل لجنة تقصي حقائق مستقلة تدرس سوقنا الاستثماري وما يتناطح فيه من احتكارات لتنظيفه من أدرانها؟!