سَنّ القوانين وأسنان البيروقراطية
تفرض البيروقراطية، في حالات كثيرة، نفسها وأجندتها على نصوص القوانين مهما بلغت قوة وأهمية هذه القوانين؛ لسبب بسيط جدا وهو أن النص القانوني قاعدة حقوقية بيد بيروقراطي. ربما يضع «البيروقراطي» القاعدة القانونية في مكانها الصحيح، وربما يأخذها إلى دهاليز «التعاميم»، وتفسيرات المنطق البيروقراطي.
ما إن يصدر نظام جديد أو تعدل بعض نصوص نظام قائم، حتى تبدأ آلة التعاميم بالدوران. «إشارة إلى .. إلحاقا لما سبق .. لاستكمال ما يلزم»، حيث توضع هذه التعاميم موضع التطبيق ويحتج بمضامينها في مواجهة أي اعتراض، ولو كان الاعتراض مبنيا على أساس مخالفة هذا التعميم أو ذاك للنظام أو المصلحة التي تحميها القاعدة القانونية.
«التعاميم» في العرف البيروقراطي قواعد لا يمكن تجاوزها، أما النص النظامي فهو مقيد بفهم هذه التعاميم وتعبيراتها، بل وتجاوزاتها في بعض الأحيان. لا يمكن أن ترى لدينا نظاما إلا وقد تكالبت عليه التعاميم من كل حدب وصوب. يستقبل النظام بتعميم، ويوزع بتعميم، ويفهم بتعميم، ثم تختفي قواعده وغاياته بتعميم.
ومع تعاقب الإدارات وتنوع التوجهات البيروقراطية؛ تتراكم عشرات بل مئات التعاميم؛ لتنشأ على ركامها المتنامي وسيلة «الأداء السماعي» لدى الموظف العام. أي أن الموظف يؤدي المطلوب منه وفق ما يسمعه من زملائه الذين سبقوه، لأن القاعدة القانونية المنصوص عليها في النظام أعقبها عشرات القواعد «التعميمية» من الجهة المنفذة، لذا يصعب على الموظف الجديد الإطلاع عليها أو تقصي تحولاتها؛ فيكون السؤال الشفهي والمعلومة السماعية قاعدة التنفيذ. وينشأ تبعا لذلك تباين في التطبيق بين منطقة وأخرى وبين مدينة وأخرى، بل بين موظف وموظف آخر في قسم واحد، حول حالة واحدة محكومة بنص نظامي؛ لكنها أصبحت محكومة بتعاميم البيروقراطية وتفسيراتها.
يقال أحيانا «النظام مطاط» تعبيرا عن اختلاف التطبيق لنصوص النظام على حالات متشابهة أو متطابقة. الحقيقة أن البيروقراطية هي التي جعلت النص النظامي في هذا القالب، وأسفرت التطبيقات المغلوطة والمتباينة عن حالة من عدم الثقة بكفاءة بعض الأنظمة لدينا وقدرتها على مواجهة المتغيرات؛ في حين أن المشكلة ربما لا تتعلق بالنظام ذاته ولا بالقواعد التي سنها ولا بالحقوق التي يحميها؛ وإنما ترتبط بفهم من قام على تطبيق القاعدة النظامية. لذا يلزم تنمية المعرفة القانونية لدى الموظف العام، على الأقل يعرف الموظف معنى تدرج القاعدة القانونية؛ فلا التعاميم تخالف اللوائح والأنظمة، ولا اللوائح تخالف الأنظمة. كما أن تطوير الإدارات القانونية في الأجهزة الحكومية يسهم في تطبيق الأنظمة بعيدا عن اجتهادات غير المتخصصين.
ليس للنص النظامي يد يدافع بها عن نفسه؛ إنما هو أمانة في يد من ولي أمانة العمل العام حتى تتحقق غاية النص النظامي، وتستوفى الحقوق التي وضع النص من أجل حمايتها، وإذا تضمن ما يوجب تعديل؛ فليسارع إلى تعديله لا أن يتم الالتفاف حوله ومخالفته.
صدرت في السنوات العشر الأخيرة عديد من الأنظمة واللوائح والقرارات، والعمل على تطبيقها التطبيق الأمثل هو تحد حقيقي للجهات الحكومية المعنية بها، بالقدر الذي يوجب على الجهات الرقابية متابعة ذلك ورصد حقيقة ما يدور على أرض الواقع لا فقط ما تتضمنه التقارير والدراسات. كما أن الاستئناس برأي الجهات الحكومية المعنية عند سن الأنظمة أو تعديلها؛ يوجب الحذر من تسرب بعض معاني «التعاميم» وتبعاتها إلى بنية النص القانوني ومفرداته؛ كي لا تتحول التطبيقات الخاطئة إلى نصوص نظامية.