الوثائق تكشف الحقائق .. ولكن!
عندما بدأت أمريكا الحرب على العراق, كشف النقاب عن إنشاء دائرة تتبع البنتاجون سميت حينها "التأثير الاستراتيجي والتضليل والخداع الإعلامي", ولهذه الدائرة كانت مسؤوليات كبيرة تهدف في المحصلة إلى رسم صورة إعلامية مغايرة للحقائق, لكن هذا العمل كان مختلفا هذه المرة, لكونه تجاوز عن القواعد القانونية والأخلاقية والإنسانية, وكانت مهمات هذه الدائرة التستر على جرائم الحرب, وعلى خسائر الوحدات العسكرية, وعلى القتلى من الأمريكان.
كان جل الجنود الأمريكان في الحرب من المرتزقة, ممن تلقوا تدريبات عسكرية يقدمون خدمات واضحة, مقابل عائد مادي, وبعقود, لكن هذه العقود تمت عبر شركات مدنية مساهمة في العمل العسكري والعمل الخارجي بمختلف أنواعه, ولهذا لم تشمل قوائم الجيش الأمريكي هذا النوع من الجنود ولا اعتبروا من خسائر الجيش الأمريكي, لا بل إن العديد منهم قتل في الحرب, لكن شهادات الوفاة سلمت لذويهم على اعتبار موتهم كان في حوادث عادية وليست في العراق أو أفغانستان.
التضليل والخداع الاستراتيجي, جزء رئيس من اللعبة القادمة عالميا, فالإعلام يصور الضحية ويعمل على شيطنتها, والتقارير الأمنية تثير المخاوف منها وترتقي بها إلى مرتبة الهدف, وبالمحصلة يسقط الهدف بالحرب الإعلامية أولا, في عملية غسل دماغ مكثفة, ووثائق "ويكيليكس" الأخيرة تكشف المخفي والوجه الآخر للسياسات والأشخاص, وتوضح الأهداف البعيدة لأمريكا.
أمريكا ليست كما يراها العالم بلد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, فهي كذلك داخل أمريكا وللأمريكيين فقط, ففي مختبراتها الاستراتيجية ليست هناك عواطف ولا قيم إنسانية, والهم الرئيس هو بقاء أمريكا على رأس الهرمية الدولية, ولا مانع من الحروب على اختلافها إن كان هذا يخدم المصالح الأمريكية, أو يوقف حراك دول عظمى أخرى لديها الطموح في المنافسة, أو لنهب ثروات شعب معين تحت أي ذريعة أو غطاء!
فإذا كانت الحروب السابقة عسكرية, فإن الحروب المقبلة ستكون هندسة الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية والتقنية, هندسة شد الأطراف والتفجير من الداخل, والاشتباك مع قوى الاستنزاف المختلفة, وخلق تحولات داخلية, تؤثر في الوحدة الوطنية للدول والمجتمعات, على أساس تجزئة المجزأ وتعزيز عوامل الاختلاف.
الوثائق بالطبع تكشف الحقائق، لكن هذه الوثائق في العرف الاستراتيجي الجديد لم تعد ذات قيمة وأهمية, لا بل إن كشفها وإزالة الستار عنها, يعني تحميل مرحلة سياسية محددة وزر كل الجرائم التي ارتكبت, والتخلص من العبء الأمني والإنساني والحقوقي لها أيضا, وكذلك إزالة الغطاء عن شخصيات شاركت في اللعبة ذاتها وتعريتها, وليس إسقاطها, لأن الهدف أن تسقط القيم أولا, وهذا جزء من أهداف اللعبة.
لقد قرأنا في الصحافة الأمريكية عن قيام خبراء في المخابرات الأمريكية بإسداء نصائح للرئيس أوباما حول قرار إسرائيلي بالحرب على لبنان وضرب إيران, وأن إسرائيل أكملت استعداداتها لذلك, وأن بنيامين نتنياهو قال في واشنطن: إسرائيل تعرف أين هي مصالحها الأمنية, بمعنى أنها لا تنتظر الأوامر من أحد, ونشاهد إعلاميا التراشق الإعلامي الأمريكي ـــــــــــــ الإيراني والإيراني ـــــــــــــــ الإسرائيلي, لكننا في المحصلة علينا أن نبحث في التفاهمات التي تجري على الأرض في العراق وأفغانستان, في السلوك الأمريكي, في محاولات واشنطن إبقاء المنطقة في حالة توتر وقلق أمني, وإبقاء الخليج في إطار الهواجس الأمنية, في إعادة المنشق الإيراني بعد احتجازه في فرجينيا, في الندوات والدراسات الهادفة زعزعة الأمن والاستقرار، وإثارة الأسئلة وخلق الشائعات والبلبلة, أن ندقق في الكم الهائل من الدراسات التي طالبت القرار الأمريكي بتغيير الاتجاه مع العالم الإسلامي لا بتغيير الهدف السياسي والاستراتيجي.
يجب أن نجيب عن سؤال من هو الذي يستثمر الطائفية استثمارا سياسيا, ضمن سياسة توظيف الطائفية وهندسة الفوضى الخلاقة, ولم يتوقف هذا الأمر على السنة والشيعة فقط, بل تعداه إلى الطوائف المسيحية التي تشهد هي الأخرى استقطابا حادا ومؤتمرات ودعوات لخلق وطن قومي للمسيحيين في الشرق الأوسط, وكذلك النفخ في قرب الحركات الصوفية في المنطقة. وليس أدق من ذلك سلسلة الدراسات التي أصدرتها مؤسسة "راند" عن الصوفية في المغرب ومصر والسعودية والعراق, والإشارة الخفية لعلاقتها بأنقرة, في الرهان على المكون الشيعي في الصدام الطائفي, في سب السيدة عائشة.
اللافت للانتباه أن يصدر تقرير للخارجية الأمريكية تحت عنوان عريض هو "كيف يمكن توظيف الصوفية في خدمة أهداف السياسة الخارجية الأمريكية", ونحن بالطبع لنا الظاهر على السطح, وما هو غير ذلك ساحة لمختبرات أمنية وسياسية يجري العمل عليها بكل قوة, وبما يؤدي إلى تخريب الخريطة المذهبية في المنطقة, وتخريب الخريطة والبنى الذهنية لتحقيق صدامات الوعي والفكر والثقافة أولا.
كل الدراسات تشير إلى أن المخابرات الألمانية من الأجهزة النشطة في الشرق الأوسط, ولو تابعنا ذلك في الصحافة الألمانية لاكتشفنا كيف أن "البوندستاج" الألماني ناقش مرارا كيف استخدمت المخابرات الألمانية الصحافة إطارا لنشاطها, وكيف كان جل الدروع البشرية فترة الحصار الاقتصادي للعراق من الألمان, وكيف أنهم سلموا الأمريكان معلومات دقيقة عن العراق, لا بل وجندوا عملاء في المؤسسة العسكرية, وكيف أن إعلاميات من إلمانيا يقصدن اللجوء إلى المقاومة العراقية. واتضح فيما بعد أنهن يعملن لمصلحة الجهاز الأمني الألماني, بينما تؤكد التقارير أن الموساد الإسرائيلي يتحرك بجوازات سفر ألمانية وأن مؤسسات المجتمع المدني الألمانية المانحة ليست بعيدة عن تفاهمات حول المنطقة.
وعلينا أن ندقق كثيرا في مؤسسات المجتمع المدني تلك التي تتلقى تمويلات من أوروبا ومن أمريكا والنرويج والسويد أيضا, لأن المؤسسات الأجنبية تلك ليس هدفها خلق التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فحسب, وتدريبنا على ممارسة الحرية والديمقراطية وتعليمنا مبادئ حقوق الإنسان, إنما هي بعثات استطلاعية متقدمة للمخابرات الغربية, تأتينا على شكل هيئات مختلفة, باحثين وصحافيين ومفكرين. والأدهى والأمر أن عديدا من المؤسسات الأوروبية تلك تعمل كوكيل بالباطن كمقاول استخباري للأمريكان, وأن الدراسات التي تصدر عن هذه الهيئات والمؤسسات في أحايين كثيرة يكون الاتفاق على مخرجاتها مسبقا وشرطا من شروط الجهة المانحة لتستخدمها في إطار ضغوطها السياسية على دولنا وتبتز بها حكوماتنا.
ومع الأسف أن التمويل وبآلاف الدولارات ليس هدفه تنمويا بالقطع, بل هدفه المشاركة والمساهمة في إعادة توجيه وحرف العقل العربي عن أي توجهات استراتيجية, فكما صنعت هذه المؤسسات التطرف والإرهاب فترة من الفترات, تقنعنا أيضا بأنها تعمل لبناء دول المؤسسات والقانون والخيارات الانتخابية الحرة, تعمل لتربيتنا وتثقيفنا ببرامج مختلفة كالزائر الدولي, وبالبرامج الثقافية بالتعاون ودور نشر عربية, ومركز بحث ودراسات, وهي بذلك تعمد إلى استنزاف ثرواتنا وتبقينا في دائرة التخلف المزمن. علينا أن نقتنع بالمذهب الصيني القائل الإنتاج والإنجاز والعمل والأمن يسبق الحرية التي مطلوب منها أن تجعلنا شعوبا كثيرة الكلام شعوبا من ورق ولغة وأصوات في البرية, بدلا من أن نكون شعوبا منتجة ولها إنجازات, فالأمم التي تطورت تقنيا وصناعيا جاء تطورها بعد حروب دامية, بعد حروب الإلغاء والإقصاء والتهميش والتخريب الفكري. الهجمة كبيرة جدا ومن جهات مختلفة, لكن نحن لسنا حالة شاذة في المسار الحضاري والإنساني, رغم وجود حرب ممنهجة على الإرادة السياسية لدولنا ومجتمعاتنا, إلا أن الحكيم من يفهم ويدرك اللعبة الكبرى بأبعادها المختلفة, وأحيانا المتناقضة كما تبدو لنا, ولا مانع من استيعاب الصدمات وهضمها والتعاطي معها وتفويت الفرص على لاعبين يمثلون لعبة الممانعة والمقاومة على مسرح الجريمة الاستراتيجية, وعلينا أحيانا مواجهتها مواجهة محسوبة بدقة, والعمل على تغيير قواعد اللعبة بذكاء إن أمكن.