يا لها من سنة رائعة

في ليلة رأس السنة، جلس المؤلف الكبير أمام مكتبه وأمسك بقلمه وكتب «في السنة الماضية، أجريت عملية المرارة، ولازمت الفراش عدة أشهر، وبلغت الستين من العمر فتقاعدت من وظيفتي المهمة في دار النشر الكبرى التي عملت بها 30 عاما كاملة، وتوفي والدي، ورسب ابني في اختبارات كلية الطب بسبب إصابته في حادث سيارة. لقد كانت سنة سيئة بحق». دخلت زوجته المكتب فلاحظت على الفور شرود ذهنه فاقتربت منه ومن فوق كتفه قرأت ما كتب فتركت الغرفة بهدوء وبعد دقائق عادت وقد أمسكت بيدها ورقة أخرى. وضعتها بهدوء بجوار الورقة الأخرى التي سبق أن كتبها زوجها، فتناول الزوج الورقة وقرأ منها: «في السنة الماضية شفيت من آلام المرارة التي عذبتني سنين طويلة، وبلغت الستين وأنا في تمام الصحة والعافية، وأخيرا تقاعدت من وظيفتي المملة وتفرغت الآن للتأليف، وعاش والدي حتى بلغ الخامسة والثمانين ومات من غير أن يسبب لأحد أي متاعب، ونجا ابني من الموت في حادث سيارة وهو الآن طالب في كلية الطب ، يا لها من سنة رائعة حالفني فيها الحظ فعلا».
ربما جاءتك هذه القصة الرائعة في رسالة بريد إلكتروني، كما جاءتني. إنها قصة رائعة من آلاف القصص التي تقرر حقيقة كونية جوهرية خطيرة جدا وهي: أن الإنسان يستطيع أن يغير من رد فعله على ما يحيط به من أحداث ومواقف بتغيير نظرته إلى هذه الأحداث والمواقف. إنه اكتشاف علمي كبير ومهم لا يقل عن اكتشاف الكهرباء والطائرة والمحرك، كما قال ويليام جيمس: «إن أعظم اكتشاف في جيلي هو أن الإنسان يستطيع أن يغير ظروفه بتغيير نظرته إلى هذه الظروف»، ولكنه بالغ إذ قال إن هذه الحقيقة هي من «اكتشاف جيله»، حيث أثبتت الآيات والقصص والوقائع أن هذه حقيقة كونية ومما فطر الله الكون والإنسان عليه، خذ مثلا: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له». بإمكاننا إذن أن نختار ردة الفعل على ما يعصف بنا من أقدار. نحن لسنا ريشة في مهب الريح تحركنا كيف شاءت، لدينا القدرة على أن نختار من ردود الأفعال ما يناسب عقائدنا ومبادئنا وأهدافنا في الحياة. ردود الفعل هذه سيتحكم فيها كل التحكم تصورنا للقضية ونظرتنا للمشكلة. فكلما كانت نظرتنا إيجابية وواقعية كلما كانت ردود أفعالنا أقرب إلى النمو والتعلم والنجاح. هكذا يعملنا ديننا العظيم: أن لا تكره شيئا فقد يكون فيه الخير لنا، و لا نأسى على فاتنا ولا نفرح بما آتانا، وعلمنا أن تكون ردة فعلنا إيجابية في كل حين: فمع البأس والبلاء تضرع، ودعاء، وصبر، وتعزية، ومؤازرة، واحتساب، وكلها أفعال إيجابية عملية حياتية ذات مردود إيجابي دنيوي وأخروي. وعند التخطيط أمرنا بـ «أعقلها وتوكل»، وعند القلق من المستقبل، أمرنا بالتفاؤل وحسن الظن بالله، وألا نيأس من روح الله، وإذا ما غضبنا أن نغفر، وإذا جهل علينا أن نحلم، وإذا اعتدي علينا أن نعفو، وإذا اختلفنا مع أحد أن نبدأه بالسلام. منهج عجيب لا يسلمنا للمشاعر الوقتية العفوية التلقائية لما يحيط حولنا بل يعيد لنا مقود التحكم في منظومة أخلاقية متميزة يكون التحكم في النفس والسيطرة على المشاعر هو أساسها الذي تقوم عليه.
كل تصرفاتك في هذه الحياة هي انعكاس لتصورك لها. إحساسك بما حولك، اختيارك للتفاعل مع ما تسمع وترى وتحس، تفاعلك مع تجاربك السابقة، تفاؤلك بالمستقبل، وضعك للأشياء في حجمها الصحيح، كل هذه وغيرها عوامل مهمة تحدد تفاعلك مع ما يحيط بك.
تخيل معي شخصا يدخل لمدينة ما لأول مرة في حياته ويريد أن يذهب إلى نقطة محددة في هذه المدينة لاجتماع مهم، واشترى خريطة ولكنها كانت لمدينة أخرى غير المدينة التي هو فيها، فهل يفيده في هذه الحالة القيادة الممتازة للسيارة؟ هل يغني عنه ذكاؤه الحاد؟ هل يستفيد من تفاؤله وتفكيره الإيجابي؟ هل يعين هذا الشخص لو علمناه مهارات جديدة في القيادة أو حاولنا تشجيعه بكل ما نستطيع؟ إذا كانت الخريطة التي معه لمدينة أخرى فلن يجدي معه كل هذا، وسيضيع حتما. نظرتك للحياة ولما حولك هو خريطتك، إذا كانت نظرتك للحياة صحيحة وإيجابية فإن جميع المهارات والتجارب والخبرات والأفكار تكون عوامل مساعدة لك، ولكن إذا كانت نظرتك للحياة سلبية وتشاؤمية فلن تغني عنك تلك الأمور شيئا مثل ذلك السائق الذي يستخدم خريطة خاطئة. وبالتالي نعلم أن أي محاولات في تعليم الإنسان مهارات في التعامل مع الحياة أو تنظيم الوقت أو برمجة الآخرين أو تقنيات للنجاح في الحياة (كالتي راجت هذه الأيام) لن يكون لها الأثر المطلوب إذا لم تتغير طريقة التفكير الأصلية والنظرة للحياة. عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما أعرابيا يتأوه من الحمى فقال له: «طهور إن شاء الله» كعادته - صلى الله عليه وسلم - في تحويل كل شيء سلبي إلى إيجابي، وكل مصيبة إلى منحة، وكل ألم إلى أمل، لكن الأعرابي لم يفهم هذا المعنى ولم يتذوق حلاوته فقال: «بل هي حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور» قال النبي - صلى الله عليه وسلم: «فهي إذن».
فيا معشر الذين ينظرون للسلبيات في كل شيء، يا أيها المتشائمون الناظرون للحياة نظرة سوداوية، يا من لا يرون إلا المثالب والنقائص، يا من يتتبعون عيوب الناس وزلاتهم، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن نخلع هذه النظارة السوداء ونستنشق عبير الحياة، غيروا طريقتكم في التفكير وستجدوا كل شيء أمامكم تغير. وتأملوا أبيات أبي ماضي العبقرية:
«هو عبء على الحياة ثقيل
من يظن الحياة عبئا ثقيلا
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئا جميلا»
إن أكبر معوّق في هذه الحياة هو صاحب التفكير السلبي!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي