مَنْ حَضَّرَ عِفْريتَ البطالة؟! (3)
في الجزأين الأول والثاني من هذا المقال، عرضتُ للمحطة الأولي التي تساهم بشكل أو بآخر في مشكلة البطالة ألا وهي البيت، وفيها عرضتُ للأسباب ووسائل العلاج، ثم انتقلتُ بعد ذلك إلى المحطة الثانية ألا وهي المؤسسة التعليمية، حيث عرضتُ خمسة أسباب تشكل مساهمة المؤسسة التعليمية بشكل مباشر أو غير مباشر في مشكلة البطالة، في أولاً..!.
ثانياً وسائل العلاج:
(1)المؤسسة التعليمية هي في حقيقة الأمر جزء من المجتمع، وعليه فلا يجب أن تمارس دورها التربوي والتعليمي والتدريبي بمعزلٍ عن المجتمع الذي تنتسب إليه، بل يجب عليها أن تُنْشِأ قنوات اتصال جارية بالأسرة لتُكَونَ صورة متكاملة عن التلميذ في البيت وفي المدرسة وفي الأماكن العامة، بغية التقاط جوانب التميز وتنميتها، كذا التعرف على جوانب القصور ومعالجتها، في إطار تنسيقٍ مشتركٍ بينها وبين الأسرة.
(2) يجب على المدرسة أن تتعامل مع القدرات المتفاوتة للتلاميذ بشيء من الاستثمار المهني، إذ ليست المدرسة - حسب الرؤية الحديثة - مكاناً للتحصيل النظري وقياسه، فربما تفوق آخرون في الجانب اليدوي أو الرياضي أو الفني، وهؤلاء يحتاجون إلى عناية المدرسة لإبراز وبلورة تلك القدرات وتحديد مسار المميزين على ضوئها.
(3) تبين بالتجربة أن ورقة الامتحان لا تقيس من قدرات التلميذ سوي جانب التحصيل النظري فقط، بل وقد تفشل في ذلك أيضاً إذا صادف التلميذ في وقت الامتحان المقرر أو المحدد مشكلة خارجة عن إرادته، وبالتالي فالامتحانات بصورتها الراهنة لا تفصح عن كل مواهب التلميذ، ومن ثم وجب على القائمين على أمر التعليم أن يجعلوا من عملية القياس عملية شاملة ومستمرة لتقييم قدرات ومواهب التلاميذ بصورة دقيقة.
(4) التوسع في التعليم الفني والتدريب المهني بغية تخريج أفراد أصحاب مهن يدوية أصبح مطلباً مُلحاً، خاصة وسوق العمل يعاني عطشاً كبيراً لتلك المهن، في الوقت الذي تضخ المؤسسات التعليمية الآلاف من أرباب المؤهلات التي لا تناسبها سوي الأعمال المكتبية التي تشهد تكدساً ملحوظاً، بل تشهد في الحقيقة بطالة مُقنعة.
(5) لابد من تضييق الهوة بين ما يطلبه سوق العمل من تخصصات وبين ما تضخه المؤسسات من تخصصات تقليدية لا يمتصها سوق العمل لكثرتها أو لعدم الحاجة إليها، وبذا أصبح من الضروري تطوير المناهج بالصورة التي تسمح بتخريج طالب مُلم بعلوم العصر من ناحية، وبالعدد الذي يحتاجه سوق العمل من ناحية أخرى، أي مراعاة جانبي الكيف والكم.
(6) يجب أن تغرس المؤسسة التعليمية في عقول طلابها أن التعليم عملية مستمرة، لا تنتهي بالحصول على شهادة معينة، وإنما تمثل الشهادة القاعدة الذي يُبني عليها هرم المعارف والمستجدات العلمية والتدريبية والثقافية، ليكون الخريج جاهزاً للانطلاق متى حانت له الفرصة.
## المحطة الثالثة: الإعلام
أولاً: الأسباب:
(1) الإعلام بوضعه الراهن لا يقوم على وجه كامل بأداء دوره المنشود في النهوض بثقافة العمل وإعلاء قيمته خاصة في أوساط الشباب، إذ لا يبدو أمام المتأمل أن وسائل الإعلام تتبع خُططاً مدروسة من أجل التنشئة الاجتماعية الملائمة من خلال مَدِّ أفراد المجتمع بالحقائق التي تقنعهم بأهمية التنمية والطريقة التي تتم بها.
(2) كرست وسائل الإعلام بصورة أو بأخرى لفكرة «الحظ» على حساب فكرة «العمل»، ولمفهوم «الواسطة» على حساب مفهوم «الاجتهاد من أجل التميز».. صحيح أن الإعلام يُميط الستر عن بعض السلبيات، لكن التعميم مُحبط، وذو آثار في غاية الخطورة.
(3) سلط الإعلام الضوء على مهن جماهيرية مثل مهنة كرة القدم والغناء والتمثيل، وجعل من أربابها نجوماً للمجتمع وقدوة للشباب، في الوقت الذي غض فيه الطرف عن مهن الآخرين إلا فيما نَدُر، فنام الشباب واستيقظوا على حلم الشهرة والمال مثل اللاعب الفلاني أو الممثل العلاني، وأني لمن عاش في هذا الوهم أن يبحث عن عمل أو يقنع به؟!.
(4) الأحاديث الدينية المطولة، عبر فضائيات متناثرة في فضاء مفتوح عن الزهد وترك الدنيا، قلَّص من طموح الشباب، وحَدَّ من سعيهم في دروب الأرض بحثاً عن الرزق والكسب، ظناً بأن هذا هو طريق الجنة!.
(5) مبالغة بعض البرامج والتقارير في رصد مشكلة البطالة وعرضها بالأبعاد الثلاثية، أشاع إحباطاً ويأساً، وأفقد كثيراً ممن يبحثون عن عمل أملاً كانوا يتمسكون به وهم يبحثون، وللأسف لم يتوازى مع هذا العرض المُحبط للمشكلة طرح للحلول، على الأقل، حرصاً على توازن الرسالة الإعلامية، وتوازن تأثيراتها المختلفة.
ثانيا: وسائل العلاج.. في المقال القادم إن شاء الله.
* باحث في علم الإحصاء