السلطة الخامسة!
في لقاء بثته ''قناة الجزيرة'' ضمن تقاريرها المتميزة والسبّاقة عن وثائق (ويكليكس) قال أحد الموظفين السابقين في الاستخبارات الأمريكية إن نشر الوثائق وبما فيها من أحداث مروعة مخجلة يعد انتصارا لما يسميه (السلطة الخامسة) أي الإنترنت بعد تراجع دور (السلطة الرابعة) أي الصحافة، وقال إن الصحافة في أمريكا لم تعد تقوم بدورها الأخلاقي، أي الرقيب المحايد الذي يستهدف المصلحة العليا للبلد.
لا شك أن الصحافة تراجعت كثيرا في القيام بدورها، والرقابة على وسائل الإعلام في الدول الغربية تتعدد وتتنوع وهي موجودة دون شك منذ تطورت الظاهرة الإعلامية، ولكن ما هو أشد عمقا وتأثيرا في وسائل الإعلام هو الرقابة التي تفرضها طبيعة الملكية للوسائل الإعلامية، فإذا كانت الحكومات المالكة لوسائل الإعلام تمارس الرقابة والضبط والتوجيه الذي يخدم مصالحها، فلأن الشركات الخاصة والعامة تمارس الرقابة الصارمة حتى لا تتعرض مصالحها للأضرار.
ورقابة الصناعة الإعلامية على أدواتها تطورت بشكل مكثف في العشرين عاما الماضية على مستوى العالم، وأدى تمركز ملكية وسائل الإعلام في يد قلة من المجموعات الإعلامية الكبيرة إلى السيطرة على ما يقارب الـ 80 في المائة من حجم تدفق المعلومات التي تصل إلى الناس، والظاهرة تتعاظم في أوروبا وأمريكا وفي العديد من دول العالم، وهذا التبدل في طبيعة الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام ما زال هناك من يتخوف منه.
مجلة ''الإيكونوميست'' في عددها قبل الأخير ذكرت أن المدير العام لشبكة البي بي سي البريطانية مارك ثمبسون كان في نيويورك قبل ثلاثة أسابيع لينقل تحذيرات للأمريكيين من خطورة تمركز ملكية وسائل الإعلام، ودعا من التقى هناك إلى عدم السماح لهذا التمركز في أمريكا. ومدير الـ ''بي بي سي''، ودخل في مواجهة كبيرة مع روبرت مردوخ أحد أبرز الساعين إلى السيطرة على وسائل الإعلام، الذي يستعد الآن لامتلاك شبكة سكاي البريطانية، والبريطانيون يتحدثون عن هذا الموضوع، أي أن مردوخ سوف يكون لديه عبر إمبراطوريته التأثير الكبير في جوانب الحياة البريطانية، وبالذات تحول ''سكاي نيوز'' إلى محطة تقوم بدور ''فاكس نيوز'' في بريطانيا.
النقاش حول دور وسائل الإعلام في الديمقراطيات الغربية بدأ أكاديميا منذ مطلع الثمانينيات، والدارسون للفكر السياسي يرون أن تمركز الملكية والاحتكار بأيدي القلة له أثره المباشر في توازن السلطات التنفيذية والتشريعية، ويحد من السلطة الأخلاقية للرأي العام، ويرون أن لذلك بعدا فلسفيا، أي أن ذهنية الحكم والأداء السياسي للحكومات قد لا يتطور ليكون قادرا على الاستجابة للتبدلات التي تحدث في ظروف الدولة المحلية والخارجية، أي عدم الإحساس بوجود الرقيب قد يدفع إلى اتخاذ القرارات الخاطئة والقاتلة والمضرة بالدولة والشعب، وهذا تقريبا ما كان يشير إليه موظف الاستخبارات الأمريكية السابق، الذي قال إن الصحافة لم تقم بدورها لفضح ما كان يحدث في واشنطن.
الأمريكان هم الأكثر قلقا على مستقبل الديمقراطية في بلادهم، فأمريكا منذ قيامها كانت تتعايش مع ضرورة توازن السلطات الثلاث، التنفيذية، القضائية، التشريعية، وكانت الصحافة تقوم بدور المرجح للمصالح الوطنية في حال الاختلاف، لأنها كانت مفتوحة لجميع الآراء وأعدادها الكثيرة كان يساعدها على تقديم جميع وجهات النظر، وكان هذا في مصلحة أمريكا.. حتى تنامت ظاهرة الاحتكار والتمركز في ملكية وسائل الإعلام، وهنا لا أحد يعرف كيف سيكون أثر هذا الاحتكار في صناعة الإجماع، وفي حيوية العملية السياسية وعدم اختطافها من أصحاب المصالح، هل ستبدأ الديمقراطيات في العودة إلى الديكتاتوريات مع اختلال موازين القوى؟ هذا السؤال يحتاج إلى إجابة من المختصين في الفكر السياسي، فكيف سيكون أداء الحكومات مع بروز السلطة الخامسة؟