والموت خزيان ينظرُ
من المؤكد أن عمال منجم سان خوسيه الـ (33) الذين انهار عليهم المنجم واحتجزوا في قعره المظلم لمدة 68 يوما لم يسمعوا عن القعر المظلمة التي توجع منها جدنا الحطيئة وقد ألقاه فيها عمر بن الخطاب عقاباً له على هجائه البذيء فراح يستعطفه: بأطفاله:
''ماذا أقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر''
القعر المظلمة هذه المرة ليست سجناً في حرة المدينة المنورة وإنما منجم للذهب والنحاس في صحراء ''أتاكاما'' في تشيلي الذي بات ملحمة النبل الإنساني حين يستنفر كنوز خيرات الروح والنفس والجسد، يجد لها ضفائر سحرية تخترق صلابة الصخر في حدب الأم الرؤوم لمسافة 700 متر تحت الأرض لإنقاذ كادحين منحهم المنجم سحنة ترابه وفي أيديهم وأرجلهم أخاديد حفرتها حراب حجارته وكدمات وشمتها على أجسادهم المكدودة جدرانه وهم يسندونها بظهورهم ويحملون سقفه على هاماتهم لكيلا يطبق عليهم بينما هناك في السطح حضر العالم من جميع القارات، بشر وتكنولوجيا ومعدات حشدت وسخرت لإخراجهم، في البدء تم عمل ثقب سُمي ''الحبل السُّري'' لإمدادهم بما يبقيهم على قيد الحياة، مع كاميرا ترصد ما يدور هناك ثم حفروا نفقاً بعمق 633 متراً وعرض 54 سنتيمتراً فيما أقيم للأهالي والأصدقاء ''مخيم الأمل'' وغص المكان بنحو ألفي صحافي مدججين بآلات التصوير والتسجيل في انتظار الولادة الخرافية من قاع الموت في قماط كبسولة إنقاذ حملت دلالتها الرمزية التي عناها تسميتها بـ (الفينيق)، الطائر الأسطوري الذي ينهض من الرماد، لحظة أمسك فيها العالم أنفاسه حين أطلت الكبسولة حاملة أول المواليد من رحم المستحيل ''فلورتشيوا فالوس'' في الساعة (3:10) من يوم (13/8/2010) بعده ولد رفاقه واقفين على أقدامهم لا سقوطاً على رؤوسهم فرحم الأرض غير رحم الأم!!
حكايات كثيرة مملوءة بالقشعريرة الدافئة سوف يترقرق لها الدمع وتحشرج لها الصدور، لأن البشرية هناك ناضلت لحماية نفوس زكية لبسطاء ظلوا ينحتون الصخر ليجمعوا برادة النحاس والذهب بالرموش وباللهاث والعرق من سراديب دامسة فيما العالم في الخارج يتقاسم مباهجه وملذاته تحت مهرجان الأضواء متحلقين على الموائد أو الأرائك، منتشرين في الحدائق أو سادرين على الشواطئ منتشين بثرثرة موج بحر أو نهر.
برهنت شكيمة الغوث والإرادة الإنسانية هذه على أن التناقض الصارخ بين البطر والطفر، بين البلادة والإيثار يمكن تصفية الحساب معه بمجرد الصعود إلى أوج الضمير الإنساني الحي وإلى سدرة منتهى الكرامة البشرية المهيبة .. ألم تهرع وكالة ناسا، شركات التنقيب, التكنولوجيون, العلماء، الفنيون، المهندسون، رؤساء الدول، الوزراء، البابا، أهل الفن والفكر والرياضة والإعلام إلى نظم عقد كوني من القلوب الملهوفة على أولئك العمال؟ وما إن ولدوا حتى هطلت عليهم الهدايا والدعوات وانهمرت عليهم الأضواء ما حدا بصحيفة ''نيويورك تايمز'' إلى القول: (إنهم لن يعانوا من صعوبة التأقلم بل لأنهم أصبحوا نجوما)!!
لو عايش ''بابلو نبرووا'' شاعر تشيلي العظيم الذي حلم أن تكون حروفه خبزا وسيفا من لهب ضد البؤس والاستغلال، هذه الملحمة. وسمع قول قائدهم وآخر الصاعدين منهم لويس أرثوا، (إنني فخور بكوني أعيش هنا) لربما أضاف فصلاً إلى كتاب سيرته الذاتية (أعترف أنني قد عشت) بعنوان: (فخور أنا أيضا بأنني تعلمت منكم) ولربما تتدارك الروائية التشيلية ''إيزابيل الليندي'' نفسها برواية عنهم تضاف إلى روائعها، وبدلا من أن يتحسر المخرجون على عدم السبق في ترجمة رواية (رحلة إلى أعماق الأرض) لكاتب قصص الخيال العلمي الفرنسي جول فيرن إلى فيلم فلسوف يشعل فيهم عمال منجم سان خوسيه التحدي لإنتاج ''أوديسة'' واقعية أشد إدهاشا وإثارة ونبلا.
قلت في البداية إن هؤلاء العمال لم يسمعوا بحكاية جدنا الحطيئة مع الخليفة عمر، كذلك أقول إنهم أيضاً لم يسمعوا عن محنة جدنا الآخر الشاعر الصعلوك ''تأبط شرا'' مع مطارديه حين حاصروه في كهف في أعالي الجبال لكنه استطاع الإفلات منهم منخرطا منزلقا بصدره فوق نتوءات صخر الصفا والأفق ما زال يدوي بصوته:
''فرشت لها صدري فزل عن الصفا
به جؤجؤ عبل ومتن مخصَّر
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا
به كدحة .. والموت خزيان ينظر''
ومثلما فرّ جدنا تأبط شرا، من قبضه الموت وتركه خزيان ينظر, فإن الإيمان بالحياة والأمل فيها والدفاع عنها لدى عمال المنجم وأصحاب الجهود الجبارة التي هرعت لإنقاذهم منحت لهم كذلك الفرار من الموت وجعلته أيضاً خزيان ينظر!!