خصوصية حتى في الشفافية!

كتب أحد الفضلاء مقالة يطالب بترشيد الشفافية في مرفق القضاء، بادعاء أن للقضاء ''سمة خاصة تختلف عن أي مرفق آخر تحتم أن تتمَّ الشفافية والوضوح في ميدانه وفقاً لآلية دقيقة تُميّز بين ما يحسن أن يكون موضعاً للشفافية، وما بين أن يكون الأولى فيه الخصوصية''. خصوصية مرة أخرى تلاحقنا كالعنقاء تأبى أن يراها أحد والكل يتحدث عنها!
في بلدي، كل فئة وكل قطاع يعتقد أن لديه خصوصية ما لا يحق للمجتمع أن ينتهكها ويعرف ما يحدث خلف أستارها وكأن هذا القطاع ملك خاص يجب أن نوفر له درجة محترمة من السرية ليفعل ما يشاء بعيدا عن الأضواء. ولو سلمنا بتلك الحجة، جدلا، فلا أستبعد أن يأتي فريق من الأطباء ليصدحوا بأن الأخطاء الطبية مدعاة لإحداث قلق غير مناسب ويجعل القطاع الطبي عرضة لناهشي لحوم العلماء من الأطباء، ولا سيما أنه لا يخلو أي مجتمع مدني من أخطاء بشرية تتم محاسبتها داخل الصرح الطبي، في دعوة لكبح نشر الأخبار الطبية المسيئة للقطاع الطبي والاكتفاء فقط بنشر الأخبار الوردية. وقس على هذا المعلمين فيما ينشر عن فوادح المدارس وكيف سيؤدي إلى انتشار التغريب، حيث ستزدهر المدارس الخاصة الأجنبية، أو المهندسين في أخبار سقوط الأبنية وكيف سينتج عنه إحجام عن البناء وزيادة في الأسعار وبطالة في الشباب ...إلخ ... كاريكاتير لا ''منتهي''.
إن العمل في مرفق عام وليس في شركة خاصة - والعمل تحديدا في مرفق خدمي يتعاطى تقديم خدمة للمجتمع - يجب بلا جدال أن يكون عنوان التعامل معه مبنيا على أسس الشفافية، فهؤلاء كلهم لم يدخلوا تلك الأجهزة العامة إلا لأجل تقديم خدمة لي ولك ولنا جميعا فمن حقنا جميعا أن نعرف ماذا يحدث داخل الفرن المسؤول عن طهي خدماتنا. إن ترقية فلان أو معاقبة علان لتجاوزاته لا تحدث في خيمة أسرة في الربع الخالي لا يهم الغير حدوثها بل تحدث في مكان يتعاطى مع المجتمع بكل أطيافه. وهؤلاء الموظفون الخدميون بينهم وبين المجتمع رابط لتقديم خدمة نظير مقابل مادي، فهم – كأُجراء - يحصلون على رواتبهم من الخزنة العامة المملوكة للمجتمع وليست لقطة وجدت في الصحراء، أي أنها تُتجزأ من الأموال المفترض ضخها لخدمة كل فرد على أرض هذا البلد؛ لهذا هم مسؤولون أمام المجتمع قبل كل شيء، وعليه فأي اختلال لا يجب طمره في الرمال أو محاولة معالجته خلف الكواليس، بل يجب أن يعرف صاحب الحق الأول كل التفاصيل المحيطة بعمل الأجير لديه. ولو خيرنا الأجير لاختار - كأي نفس بشرية - أن يشاع فقط عنه كل خير، ويكتم أي سوء، حتى يتعاظم الداء ويستفحل وتستحيل محاولات إخفائه، وقد يكون الوقت متأخراً جداً لمعالجته.
يصدق هذا على أي مرفق وجهاز خدمي، والقضاء قبل غيره فهو حامل مشعل العدالة ومصدر إشعاع الحق، وإذا كانت الانتقائية ومعالجة المصاعب تتم بعيدا عن الأعين لدى المسؤول الأول عن تعديل انحرافات الأفراد في المجتمع ووضع الأمور في نصابها وكبح جموح الهوى الإنساني فماذا سنتوقع من غيره من جهات؟ إن القضاء منبر كريم يجب أن يكون كذلك في كل وقت، في أوقات الرخاء والأحكام الجميلة والأهم في وقت الأزمات والظروف المرتبكة. لا أعرف معنى للتغني بأية فضيلة إذا كان التمسك بها سيكون فقط حيثما وافقت أهواءنا وتطلعاتنا؛ إن المبادئ لا تختبر في الأجواء الربيعية بل يتم التعرف على عراقتها وعلى قوة تجذرها في الأوقات الصعبة والظروف المحرجة. ولا يمكن أن تدعي أنك صادق إذا كنت تصدق فقط عندما يكون الصدق مجلبة لنفعك، ولكن سيشهد القاصي والداني لك بالمصداقية إذا كان صدقك مجيرا ضدك. وإذا كانت وظيفتك الأساسية مبنية على حيادك وبحثك عن الحق بكل وضوح، فالأولى أن يكون هذا هو عنوان عملك في كل صغيرة وكبيرة، لا أن تخيط ما تريد وفق خصوصية تقيس تفاصيلها وفقا لما تعتقد أنه مناسب، فتعلن ما تشاء وتكتم ما تشاء بانتقائية لا يمكن أن تخلو من الشوائب.
الشفافية في كل معقل خدمي يتقاطع مع حياتنا اليومية ضرورة ملحة وليست ترفا نتباهى بامتلاكه وحق أصيل لنا كمجتمع لا منة ولا كرم فيه لأي جهاز خدمي، بل هو الأصل وما سواه تعد على حقوق المجتمع الأصيلة يجب أن يتوقف لا أن تحشد له المبررات لتسويغ استمراره. لهذا ففكرة أن تُقتبس الشفافية في القضاء وفقا لأي ''آلية'' هي مجرد دعوة لمزيد من التقهقر ومدعاة لمزيد من التخلف، فهناك آلية كفيلة ألا يخرج على العلن إلا ما يبيض الوجه ويرفع الرأس، اما الطوام فدونها ''آلية دقيقة'' ستتولى تدبير الأمور حتى ينتشر الوباء في كامل الجسد ولا يبقى شيء يتم إعلانه ... ''خصوصية'' لا مثيل لها، والله المستعان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي