حكاية الغش والتقليد
الغش والتقليد لا ينحصران في السلع والبضائع، ولا تعكسهما وجبات الطعام التي تعد من لحوم فات زمانها، ولا هما فقط بقايا ''إكسسوارات'' مختومة باسم تجاري يرضى به من رغبت نفوسهم في الكثير وقصرت عنه جيوبهم. كل ذلك ليس إلا رأس جبل الجليد في صناعة تتعدد منتجاتها وتتباين وسائلها وغايتها لتزييف الحقيقة، والظفر بما لا يستحقه غشاش أو مقلد محتال.
هل لي أن أقول إن الغش والتقليد ظاهرتان اجتماعيتان؟ ليس بين يدي دراسة أو إحصائيات تحملني على ذلك، ولا بد من أن نحسن الظن؛ لذا فإني سأقول إن ذلك مشكلة اجتماعية؛ بناءً على مشاهداتي كواحد من أفراد المجتمع. لحكاية الغش والتقليد صدى في ميادين كثيرة. هذا طالب لا يرى في كرسي العلم في مدرسته أو جامعته ما يحمله على بذل الجهد؛ فيعمد راغبا مختارا لكل وسائل الغش؛ ليحمل شهادته مختالا بمعرفة ''القصاصات''. وهذا باحث لا يتنازل عما يسبق اسمه من ألقاب، ولا يتورع أن يضع اسمه على عمل غيره؛ ليقدم استشارته المعرفية وينال أجره من عمل غيره. وهذا موظف تنام عينه عما أراد، وتستيقظ كل حواسه عندما لا يرجو مصلحة من طالب خدمة ضعيف الحيلة.
ليس الغش والاحتيال لمن امتهنوهما منكرَين يستتر منهما؛ بل باتا ذكاء يصنعون منهما نجاحاتهم، وربما يباهون بهما من يرون أنهم تخلفوا عن ركب النجاح المزيف؛ لأنهم صدقوا، فقط صدقوا. وفي المقابل قلَّت مظاهر الإنكار ولو بالنصيحة. لا تكاد ترى في الجامعة طالبا يحاول أن ينكر على زميله سلوكه في هذا الجانب، وهو ما ولَّد نوعا من التعايش السلمي مع هذه السلوكيات وكأنها أمر طبيعي لا تستدعي إلا الإعجاب.
لم يعد المبدأ الاقتصادي ''السلعة الرديئة تطرد السلعة الجيدة''، احتمالا اقتصاديا؛ بل تحول، للأسف، في بعض الحالات إلى ممارسة ربما تبسط نفوذها على مجتمع الوظيفة والدراسة والعلاقات الاجتماعية؛ حيث لا تتكافأ وسائل المنافسة ولا فرص النجاح، بين محترفي الغش وطلاب الحقيقة. ويتفاقم الأمر سوءا؛ عندما تكون وسائل قياس الأداء صماء عمياء تختلط في تقديرها أسباب النجاح ووسائله.
من اليسير جدا أن تتجاهل المجتمعات ما يصيب بعض أفرادها من أمراض اجتماعية وسلوكيات تنافي دينها وثقافتها؛ مع تقليل دائم لحجم تلك المشاكل وما تسببه من آثار؛ بدعوى أن الأمر لا يعدو أن يكون ممارسات محدودة ينبذها المجتمع ولا يعترف بها، لكن هذا لا يعد جزءا من الحل؛ فربما تتحول الممارسة الفردية إلى مشكلة ثم ظاهرة اجتماعية، ونحن ما زلنا نهرب من الاعتراف بحقيقتها. علينا أن نلتفت إلى القيم التي فقدناها؛ فأرست مثل هذه الأمراض. ونراجع الإجراءات والممارسات التي تحفز على وجود مثل هذه السلوكيات. ندرك حقا أن الطالب الغشاش هو مشروع موظف غشاش، وهكذا. نستطيع أن نسنّ القوانين التي تجرّم وتعاقب على الغش والتقليد للسلع والبضائع؛ لأنها ظواهر مادية يسهل ضبطها والاستدلال عليها، ويمكننا أن نضع مواصفات ومعايير للجيد من هذه المنتجات. ونحن بالقدر ذاته مطالبون بأن نتصدى لأشكال الغش والاحتيال في مدارسنا وجامعاتنا، في قطاعينا العام والخاص على حد سواء، في أعمالنا الثقافية والصحافية. حيث تفتح الأبواب للمخلصين العاملين، وتوصد أمام كل من تبرر غايته وسيلته. ونحن من أمة قال نبيها ـــ صلى الله عليه وسلم: ''من غشنا فليس منا''.