حرب الغاز في شرق المتوسط تلهب الأجواء السياسية وتدفع نحو الصدام الطائفي في لبنان

لعل آخر الاحتمالات التي وضعها المحللون والباحثون العرب بخصوص تطور الأوضاع المتأزمة في لبنان، أن ترتبط بملف الغاز دون سواه، مقابل التركيز على ملف النفط والمياه، ما دمنا نتحدث عن أزمة تهم منطقة الشرق الأوسط، أو حسابات وقلاقل التدخل الإيراني الجلي في الملف، من خلال ورقة حزب الله، ومعه الحضور السوري، وغيرها من الاحتمالات التي يمكن أن تراجع حساباتها عندما تتأمل بعض ثنايا دراسة علمية مهمة صدرت في إسرائيل عن مستقبل سوق الغاز الطبيعي في إسرائيل والانعكاسات الاقتصادية والاستراتيجية المتوقعة.
صدرت الدراسة المنشورة في دورية علمية، عن ''مركز عيدكون''، التابع لمعهد دراسات أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب الإسرائيلية، وقد أعدها الخبير في شؤون الطاقة الإسرائيلي شموئيل إيفين، ومؤرخة في تموز (يوليو) 2010، حيث تتوقف بالتحديد عند مستقبل سوق الغاز الطبيعي في إسرائيل، من خلال التطرق بشكل تفصيلي إلى الآثار المترتبة على اكتشافات الغاز الجديدة في إسرائيل، في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والتي ستجعلها من الدول المصدرة للغاز بعد أن كانت مستوردة له.
وتناولت الدراسة المكونة من جزءين، سُبل فك الارتباط بالغاز المصري الذي يعد ثاني أكبر مصدر للغاز الطبيعي لإسرائيل في الوقت الحالي، مشيرة أيضا إلى أن سوق الغاز الطبيعي في إسرائيل شهد خلال العقد الماضي تطورات كبيرة على مستوياته الثلاثة: اكتشافات الغاز، نقله، واستهلاكه، وتشير الأبحاث الإسرائيلية إلى أن اكتشافات الغاز الطبيعي الجديدة ستجعل إسرائيل مصدرة للغاز بعد أن بات أحد المصادر الطبيعية فيها.
تندرج فلسفة هذه الدراسة في سياق فلسفة أعم، وتهم التنظير للأمن الإسرائيلي بشكل عام وأمن الطاقة، والذي فرضت مقتضياته على صناع القرار في تل أبيب، ألا يبقى عند حدود الاعتماد على الآخرين مهما بلغوا من قوّة، بما يُفسر مثلا تخطيط إسرائيل للاستيلاء على حقول نفط عربية منذ الستينيات للتغلّب على نقطة ضعفها المتمثلة في نقص الإمدادات مقارنة بالقوة العسكرية الضاربة التي تمتلكها والتي من الممكن أن تتعرض إلى الشلل في أي معركة طويلة الأجل حال انقطاع الإمدادات.
وقد يُفسر تفادي الاصطدام الإسرائيلي بهذا المأزق، أهم خلفيات الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس في حزيران (يونيو) 2009 لكازاخستان، ليس فقط لأن كازاخستان ذات أغلبية إسلامية ومروجة لتوجهات علمانية، وإنما بالدرجة الأولى لأنها غنية بالمواد الأولية، ولا سيما مصادر الطاقة شأنها شأن دول آسيا الوسطى كأذربيجان وأوزبكستان وتركمانستان، إضافة إلى أنه لكل إسرائيل ودول آسيا الوسطى أولويات جيوبوليتيكية مشابهة فيما يتعلق بمواجهة الإرهاب والتشدد الإسلامي والتكامل الاقتصادي، وتحت شعار ''المصالح المشتركة''، نقرأ في ثنايا تقرير يحمل عنوان ''كازاخستان: شريك إسرائيل في أوراسيا''، وصدر أخيرا هو الآخر عن ''مركز القدس للشؤون العامة'' الإسرائيلي، أن إسرائيل تملك مفتاح ''تقديم التكنولوجيا العالية والمساعدات العسكرية والتكنولوجيا الزراعية المتقدّمة وأحدث العلوم الطبيّة لكازاخستان ولدول آسيا الوسطى، مقابل الاستفادة من الموارد الطبيعية والأولية لدى دول آسيا الوسطى وكازاخستان الغنية بها''.
بتعبير آخر، وفي إطار تأمين ''أمن الطاقة الإسرائيلي''، يمكن اعتبار كازاخستان واحدة من دول آسيا الوسطى التي تشكل ساحة ملائمة لطموحات إسرائيل في اختراق الدائرة الإسلامية وتأمين حاجاتها الحيوية من الموارد الأولية والطاقة من هذه البلدان، ووفقا لبيانات وزارة البنية التحتية الإسرائيلية، فإنه خلال عام 2009 بلغ حجم استهلاك سوق الغاز الطبيعي في إسرائيل نحو 4.2 مليار متر مكعب في مقابل 2.7 مليار متر مكعب في عام 2007، و1.6 مليار متر مكعب في 2005، كما أن أكثر من نصف استهلاك إسرائيل للغاز يأتي من الإنتاج المحلي، من شركة ''يام تاتيس'' والباقي من شركة EMG المصرية، ومن المتوقع مع نهاية عام 2010 أن يكون الغاز الطبيعي بديلاً لاستهلاك 4.5 مليون طن من مشتقات النفط، إذ من المتوقع أن يصل استخدام الغاز الطبيعي لنحو 78 في المائة في إنتاج الكهرباء والصناعة بحجم تصل كميته إلى 6.4 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، والتي ستصل إلى تسعة مليارات متر مكعب مع حلول عام 2015، و11 مليار متر مكعب في عام 2025.وفي إطار توظيف واستفادة صناعي القرار الإسرائيلي من الخدمات الميدانية لمثل هذه الدراسات، يجب التذكير بأن بعض ''خزانات الأفكار'' الأمريكية لم تخرج عن تلبية هذه الخدمات العلمية والميدانية، كما نستشف من ثنايا تقرير يحمل عنوان: ''الغاز الطبيعي ومستقبل الطاقة في إسرائيل''، وصدر هذه المرة عن معهد ''راند'' Rand Corporation في 22 كانون الأول (ديسمبر) 2009، حيث التركيز على الغاز كعنصر أساسي في سياسة أمن الطاقة الإسرائيلية في المستقبل، ووجب التذكير أيضا، أن توجه إسرائيل نحو الغاز كان قد خطا خطوات استراتيجية تتضمن اكتشافات جديدة ومحاولة استيلائها أيضا على ثروة الغاز الفلسطينية الموجودة قبالة ساحل غزّة مرات عديدة، خاصة أنّ شارون كان قد رفض شراء هذا الغاز من الفلسطينيين بحجة أنّ المياه الإقليمية قبالة غزة تابعة لإسرائيل. وعلى الرغم من أنّ الحكومات الإسرائيلية اللاحقة اضطرت بطريقة أو أخرى إلى شراء هذا الغاز إلا أنّ محاولات الاستيلاء عليه وعلى غيره من حقول الغاز الإقليمية لم تتوقف، إذ يرى لبنان أنّ جزءا من حقل ''ماتان'' البحري الضخم الذي اكتشفته إسرائيل مؤخرا قد يكون واقعا ضمن المياه الإقليمية اللبنانية، وبالتالي فاستخدام إسرائيل لهذه الاحتياطيات يعني سرقة حصة لبنان أيضا، بما يحيلنا إلى تعقيدات الصراع الاستراتيجي القائم في لبنان، بين الولايات المتحدة وإسرائيل وفرنسا في الدرجة الأولى، ومعلوم أن منطقة الشرق الأوسط تعد من أهم مناطق العالم، فهي تُجسّد أهمية استراتيجية ومهمة في صراع السيطرة العالمية بين القوى العالمية على مناطق نفوذ لها أهمية سياسية واقتصادية.
وتأسيسا على حسابات هذا الصراع، من غير المستبعد أن تسعى إسرائيل لحرمان لبنان من حقه في الثروة المكتشفة من الغاز الطبيعي تحت أي ذريعة، من قبيل أن ''هذه الثروة الطبيعية تقع حصرا داخل مياهها الإقليمية''، وما يزيد المشهد تعقيدا، أنه لا توجد إمكانية لتفاهم لبناني ــ إسرائيلي مباشر أو غير مباشر لاستثمار هذه الثروة الضخمة من الغاز الطبيعي، كما أنه لا توجد إمكانية لأن يتخلى لبنان تحت أي ضغط سياسي أو عسكري عن حقه في هذه الثروة التي تقع كليا أو جزئيا في مياهه الإقليمية.
وبالنتيجة المتوقعة فالطرفان، ومن يساندهما في الخلف، مقبلان بشكل أو بآخر على مواجهة جديدة، تؤسّس لغاز شرق المتوسط أن يشعل فتيل صراعات أشد فداحة من ذي قبل، والمقصود بغاز شرق المتوسط في نسخته اللبنانية، تبعات إعلان شركة نوبل للطاقة، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، في الثاني من حزيران (يونيو)، اكتشاف حقل هائل للغاز في منطقة امتياز لها في البحر المتوسط، وقد ثبت الآن أن حجم هذه الثروة الغازية التي تم اكتشافها في البحر تجاه منطقة صور ــ الناقورة يناهز 120 تريليون متر قدم مكعب من الغاز الطبيعي و1.7 مليار برميل نفط، لولا أن إسرائيل تدّعي أن هذه الحقول تقع داخل مياهها الإقليمية، إلى درجة ادعاء وزير المالية يوفال شتاينتس أنها ''ملك لشعب إسرائيل''، أما وزير البنية التحتية الإسرائيلي عوزي لانداو، فقد هدّد باستخدام القوة لحماية حقول الغاز الطبيعي، مضيفا في مقابلة مع شبكة ''بلومبرج'' الأمريكية ردا على التحذيرات التي وجّهها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري للسلطات الإسرائيلية، ودعوته للحكومة إلى تعجيل التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية، أن إسرائيل ''لن تتردد في استخدام القوة ليس لحماية حكم القانون فحسب، بل لصون القانون الدولي البحري أيضاً''.
ومقابل المزايدات الإسرائيلية، يؤكد لبنان أن إسرائيل ''تتجاهل حقيقة أن الحقل يمتد وفق الخرائط إلى المياه الإقليمية اللبنانية''، بتعبير نبيه بري، والذي شَدّد على أنَّ ''أفضل رد هو الإسراع في إقرار قانون التنقيب عن النفط''، وقد أقرَّ مجلس النواب اللبناني منذ بضع أسابيع فقط، قانونا ينظم عمليات استثمار هذه الثروة من الغاز، كما ينص على تكليف مؤسسة دولية مختصة لرسم حدود مياهه الإقليمية في المنطقة الجنوبية المتاخمة لشمال إسرائيل.
لا تنقصنا المعطيات التي تغذي سيناريو مواجهات جديدة قادمة في الطريق، فقط بسبب إغراءات اكتشاف حقول الغاز، فمن جهة، تسعى إسرائيل من وراء الغاز المكتشف لأن تتحول من الفحم إلى الغاز في إنتاج الطاقة، وتسعى أيضا لأن تتحول من دولة مستوردة للغاز (وتحديدا من مصر) إلى دولة مصدّرة، ولا يوجد خبير عربي أو غربي في مجال الطاقة يمكنه أن يفند هذا المعطى إذا علمنا أن الكميات المكتشفة حاليا قادرة على تحقيق هذا الحُلْم الإسرائيلي.
ومن جهة ثانية، ما زال لبنان يرزح تحت عبء ديون تتجاوز الـ 50 مليار دولار، كما أنه يعاني فقرا مدقعا في مصادر الطاقة حتى إن المولدات الكهربائية التي أنفق على شرائها عدة ملايين من الدولارات تعطلت لعدم توافر الغاز لتشغيلها، وفوق مُجمل هذه المعطيات الطاقية الميدانية، هنا معطى حقوقي صرف، ما زال صانع القرار العربي مترددا في توظيفه بصيغة تخدم المصالح العربية الاستراتيجية في المنطقة، على اعتبار أنه بموجب القانون الدولي، فإن لبنان يعتبر نفسه صاحب الحق في هذه الثورة المكتشفة، وهو ما تنكره عليه إسرائيل.
نتحدث هنا عن الحالة اللبنانية، ولو أضفنا إليها الحالة الفلسطينية، نستحضر إغراءات اكتشاف الغاز على سواحل قطاع غزّة، حيث إنه بناء على ما جاء في تقارير صحفية بريطانية (صدرت في ''الإندبندنت'' و''التايمز'' على الخصوص في 23 آيار (مايو) 2007)، فإن شركة ''بريتش غاز''، تتوقع أن تصل احتياطات حقل الغاز الموجود على سواحل غزة، والمكتشف عام 2000، إلى نحو تريليون قدم مكعب من الغاز أي ما يساوي 150 مليون برميل من النفط، وأضافت الشركة البريطانية نفسها أن هذا الحقل ''يمكن أن يضخ من حقل غزة إلى إسرائيل بين 1.5 إلى ملياري متر مكعب من الغاز سنويا، وهو ما يعادل ثلث الاحتياجات الإسرائيلية من الغاز''، مع التذكير هنا بأن حكومة إيهود باراك السابقة تركت الحقل تحت تصرف السلطة الوطنية الفلسطينية، على أن تكون إسرائيل من الزبائن المحتملين لشراء الغاز من هذا الحقل، علما أنّه لم يتم تطوير العمل فيه حتى يومنا هذا لأسباب عديدة من بينها عدم الاستقرار السياسي في غزة.
ولأهمية الخدمات الطاقية التي يمكن أن يجسدها هذا الاكتشاف الغازي في لبنان، مُهم جدا استحضار خلاصات الدراسة الإسرائيلية سالفة الذكر، حيث استعرض شموئيل إيفين في ختام دراسته أهم النتائج والتوصيات التي توصل إليها، ونذكر منها إقراره بأن إسرائيل تعيش الآن في ذروة عصر جديد في مجال الطاقة، يعتمد في الأساس على استخدام الغاز الطبيعي، الطاقة المتجددة، على حساب استخدام النفط بمشتقاته، وذلك بفضل التوفير الذي يحققه الغاز الطبيعي في تكاليف استخراج الطاقة إلى جانب كونه صديقاً للبيئة، مشيرا إلى أن المميزات والفوائد التي تحققها إسرائيل من استخدام الغاز تزداد أكثر كلما يتم الكشف عن اكتشافات غازية جديدة في إسرائيل، والتي ستجعلها دولة مصدرة للغاز، كما توقفت الخلاصات/ التوصيات عند أهمية استمرار استيراد إسرائيل للغاز الطبيعي من مصر، باعتباره أقوى صور التطبيع الاقتصادي بين البلدين حالياً، لذا فإن استيراد إسرائيل للغاز المصري ينطوي على أهمية سياسية كبرى.
وأخيرا وليس آخرا، مطلوب تأمل تأكيد شموئيل إيفين أن استخدام الغاز الطبيعي يُعتبر مسألة ذات جدوى كبرى في مجال تحلية مياه البحر، ما سيكون له نتائج إيجابية في تقليص خطر المواجهات في المنطقة على خلفية النزاعات المائية، وعدم احتياج إسرائيل في المستقبل إلى استيراد المياه من تركيا.
ولنا أن نتصور طبائع خلاصات هذه الدراسة، التي حُرّرت قبل الإعلان عن اكتشاف غاز منطقة صور ــ الناقورة، عندما نأخذ نتائج واستحقاقات هذا الاكتشاف في المادة العلمية الخام للدراسة، خاصة أنها شدّدت كثيرا على أن تطوير سوق الغاز الإسرائيلي ''بات جزءاً من الجهود الاستراتيجية التي تبذل من أجل فك الارتباط بالنفط، بهدف إيجاد مصادر للطاقة المتجددة''، بدليل تشكيل الحكومة الإسرائيلية في السابع من شباط (فبراير) الماضي لجنة متخصصة لبلورة خطة قومية للتقليل من الارتباط بالنفط، وتطوير سوق الغاز في إسرائيل.
من الواضح اليوم، أن فصائل الصراع الطائفي في لبنان، اصطدموا بورقة جديدة تخدم حساباتهم الأمنية والاستراتيجية، تقاطعا مع الحسابات الأمنية والاستراتيجية للقوى العظمى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا، في إطار مشروع أكبر يحمل عنوان ''إعادة تقاسم الثروة في العالم''، لا يسعه إلا أن يُهدّد بمزيد من العواقب الوخيمة على الأمن القومي العربي برمته، وليس الأمن اللبناني أو الفلسطيني وحسب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي