صناعة الاحتفالات
عندما عاد أحدهم من زيارة عمل يفترض أنها ''تفقدية'' سئل عن الزيارة؛ فأجاب عن تفاصيل الاحتفال الذي أقيم، وكرم المضيفين. لم يشر قط لاجتماعات عمل تناقش الأداء، ولم يتذكر شيئا عن الإيجابيات أو السلبيات أو أمر يتعلق بالعمل؛ فذكريات ''المفطحات'' طغت على كل شيء. جدول العمل هو في الحقيقة جدول الاحتفال الذي أقيم، وفريق الرصد والمتابعة هو لجنة التحضير للاحتفال، ومحاضر الاجتماعات هي تماما فن الخط العربي على لوحات الترحيب.
هذه صورة مصغرة لواقع ابتليت به الإدارة العامة، لا يجوز التنازل عنه ولا المناقشة حوله. تعايش وتكامل سلبي بين ممارساتنا الاجتماعية في منازلنا وبين سلوكنا خلف كراسي الوظائف التي نستأمن عليها. نطبق قناعاتنا الاجتماعية وممارساتنا الخاطئة على حساب العمل العام، ثم ندافع عن ذلك من واقع أن هذا عرف إداري يصعب التنازل عنه.
ترسم ثقافة الاحتفالات أو صناعة الاحتفالات، في حالات كثيرة، صورة مزورة لا تعكس الواقع الحقيقي لأداء بعض الجهات، حيث تظهر كفاءة المدير العام في إدارة الأجواء الاحتفالية، وتوظيف شبكة العلاقات في تسهيل مهام فرق العمل الاحتفالي، وما كان اتهاما بالتعقيد الإداري في العمل اليومي؛ تحول مرونة إجرائية غير معهودة.
لقد بات كل منسوبي الجهة رجال علاقات عامة واحتفالات متميزين! تغيب في هذه الأجواء واجبات الوظيفة العامة والتزامات الموظف العام ومصالح العملاء ''المراجعين''، وتحضر سريعا روح المجاملات والنفاق الوظيفي؛ لتنشأ صناعة المظاهر والشكليات.
لا يقتات من هذا الواقع مرضى ''الفلاشات'' فقط؛ بل هناك قائمة طويلة من مطاعم المندي وقاعات الاحتفالات وصناعة الدروع التذكارية وملاحق الإعلانات، ولا بد أن ''للمعاريض'' حضورا يتناسب مع حجم الاحتفال ونفوذ المحتفى به. فالخدمة التي كان يتعين تقديمها كجزء من مهام المؤسسة وواجباتها؛ تحولت إلى طلب عزيز يلزم له ''معروضا'' تزخرفه توجيهات البيروقراطية؛ كأمثال ''للمفاهمة'' أو ''إكمال اللازم''. كما تتعاظم هذه الصناعة الاحتفالية كلما توجهت للمدن الصغيرة والقرى، حيث تتأصل قناعة أن الاحتفال عربون محبة كفيل بجلب خدمات جديدة أو تحسين خدمات قائمة؛ فتتضافر جهود الرسميين والوجهاء لبذل مزيد من العمل حتى يليق ''الإنجاز الاحتفالي'' بأهل المدينة أو القرية، ويظلون في صدارة التميز مقارنة بجيرانهم الآخرين!
كيف تتسع البنود المالية لكل هذه الشكليات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ثم لا تسمح بنود أخرى بتوفير مكان انتظار يليق بالمواطن، أو شراء جهاز حاسب يسهل الخدمة؟ عندما تحضر هذه الاحتفالات البهيجة توجه في اليوم التالي لمقر الجهة المحتفلة؛ لترى أوجه التناقض بين ''الترزز'' ليلة البارحة والتعامل اليوم. انظر إلى المكاتب وقاعات الانتظار وتنظيم الإجراءات وروح التعامل؛ حتى يتبين لك الفرق بين صناعة الاحتفالات وثقافة الإنجازات.
الزيارات التفقدية تفقد قيمتها إن لم تستهدف الوقوف الحقيقي على الأداء الحكومي وليس الأداء الاحتفالي، وهي ليست شكلا من أشكال التجسس أو عدم الثقة؛ إنما جزء من الرقابة الداخلية داخل المؤسسات الحكومية. ليس صحيحا أن يبقى قياس الأداء مرهونا بالتقارير المكررة، ومعاملات الصادر والوارد. لا بد أن هناك مساحة من الإخفاق أو الإنجاز تستدعي من المسؤول تلمسها شخصيا بعيدا عن هذه الأجواء التي تطمس الحقائق.
لا يبقى لطالبي الخدمة في الجهات الحكومية صدى الاحتفالات ولا عبارات المجاملات، ولا شهادات التقدير ودروع التكريم. كل ذلك ليس مقياسا للأداء ولا مؤشرا على التميز. الناس يعنيهم بالطبع التطور الإيجابي الذي يفترض حصوله عندما يغادر الضيف.