الدولة السعودية.. الشورى ووحدة الأمة

في مناسبة اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، تستحضرني وقفات ميَّزت منهج الدولة السعودية، في تأسسها واستقرارها، من أهمها: أنها تأسست على رصيدها الإسلامي الغني، وتفاعلت مع ما طرحته الثقافة الغربية وقوانينها الوضعية، بما لا يتعارض مع شخصيتها الإسلامية، فلم تعرف الثنائية، بل عرفت تبادل المصالح مع الآخر في شتى المجالات، فاستوردت التقنية، واستأنست بالأساليب التنظيمية التي لا تتعارض مع الإسلام، ولم تعرف ذلك الاصطراع بين الأفكار والنُظُم، ولم يتعارض الدين مع القانون، وعززت من مكانة الشورى، وبقي التواصل مع التراث والقيم الإسلامية، وبقي الدين هو المشرِّع، والنتيجة: ترسيخ الاندماج فيما بين الدولة والمجتمع - الأمة.
حتى في مرحلة التأسيس، تجاوزت السعودية أفكار ''الإصلاحيين'' أو ''النهضويين'' الرمادية، وراحت توحد البلاد، ثم أسست للتنمية والتطوير، وانتهت بالتحديث، دون أي تعارض فيما بين الأصول والمتغيرات، لارتكازها على الإسلام ومقاصده، فحافظت على المصطلحات والمفاهيم المنبثقة عن الإسلام وتعاليمه، فلم تغيرها دلالياً (سيمانطيقيا) كما التجارب الأخرى، فالشورى هي الشورى، والديمقراطية هي الديمقراطية، فحفظت المؤسسات التقليدية تحت سلطة الدين، كما لم تعرف الفصل بين الشريعة الإسلامية والقانون الحديث، فالإسلام ضَمِن لها عدم الجمود، واستبعد التقليد في تعاليمه، فجرى إبعاد التأثير البشري، ليخرج التطوير أقرب إلى الصحة بناءً على عصمة الشريعة.
أما بالنسبة للشورى، كونها أصلاً ثابتاً في الإسلام، وأسلوباً لنشاط المجتمع، فإنها لا تُعد في التجربة السعودية مذهباً سياسياً، بل هي عملية تبادل للآراء في سبيل الوصول إلى القرار الأنجع، على قاعدة الأخذ بالثوابت والمتغيرات، والجمع بين الأصالة والمعاصرة في أساليب مبتكرة.
وبما أن من تعاليم الإسلام: أن طالب الولاية لا يُولى، وأن للحرية حدوداً إلهية.. ارتأت السعودية أن عملية الانتخاب، بما فيها من حرية ومعارضة عشوائية، غير منضبطة دينياً وأخلاقياً، على الطراز الغربي مرفوضة، متيحة لأي مواطن حق الدخول في المعترك السياسي ضمن قواعد وأُسس: العلم والخبرة والاختصاص والثقة والتمثيل، استتبع ذلك رفض للأحزاب كنتيجة منطقية، فالدين واحد، والثقافة واحدة، والمجتمع واحد، وبالتالي أمة واحدة، أما المعارضة على النهج الإسلامي فلا بأس بها، كونها تختلف عن النهج الأوروبي الوضعي المادي؛ فالمعارضة هنا تُصبح ''نصيحة''، على أسس ثابتة ومعلومة، وليست معارضة عشوائية هدفها، فقط، الوصول إلى السلطة.
وإذا كانت السيادة للشريعة وليست للدولة، فمِن الطبيعي تغييب أي سلطة للتشريع، وهو التميُّز الأهم بين النظام السعودي وباقي الأنظمة العربية، التي تتخذ من القوانين البشرية قاعدة للتشريع إيجاداً وإلغاء، وبالتالي مجلس الشورى السعودي ليس سوى جهاز تنظيمي – رقابي، يشرِّع، فقط، في ''منطقة الفراغ'' التي تركتها الشريعة الإسلامية لأولي الأمر، يملؤونها بما يتوافق مع الأصول العامة للإسلام وأحكامه الثابتة، ويتلاءم مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، فلا فصل للدين عن الدولة، الذي جاء لصالح المجتمعات الغربية في سبيل تطويرها وتقدمها، فإن هذه العملية ما جاءت بنفس النتائج في المنطقة العربية، بل على العكس من ذلك أدت إلى مزيد من التخلف والانحطاط والتغريب، فإذا كانت العلمانية قد أسست الدولة الغربية، فإن المجتمع الإسلامي أُسس على الإسلام وبه وانبثق منه.
فالولاية في السعودية للدولة ـ الأمة، فتصبح الصيغة الوحدوية لها ليست الدولة الليبرالية الغربية وإن تسترت بالحرية؛ ولا الدولة التوتاليتارية، وإن تسترت بالقومية، إنها دولة أخرى منشؤها القرآن الكريـم والسُنَّة المطهرة، ومشروعها جاهزٌ ويطبق.
ولكن، التجارب السياسية الإسلامية، افتقرت إلى قوننة مؤسسات ثابتة لأجهزة الحكم، وتطويرها بما يتلاءم مع تطور الزمان والمكان، من خلال الفسحة التي أعطتها الشريعة للمسلم لتطوير ذاته ضمن دائرة التعاليم الإسلامية، ما أدى، بهذه التجارب، إلى الاقتباس من هنا وهناك، وتمطيط هذا الاقتباس أو ذاك، من خلال عملية ترقيع لإلباسه لبوس الإسلام، وبالتالي لم تتمأسس على قاعدة ثابتة، أصولها وفروعها موجودة جاهزة، لا يمكن أن يطرأ عليها أي تبديل، لتصبح المشكلة في نهاية التحليل: مصدرها المجتمع الإسلامي لا الإسلام؛ والداخل الإسلامي لا الخارج الأجنبي.
فالسعودية استطاعت تجاوز الاقتباس والتمطيط والترقيع بالمعنى ''الإصلاحي'' أو ''التوفيقي''، لتؤسس مجالها الاجتماعي والسياسي على قاعدة الإسلام، فتجاوزت مسائل المعاصرة والحداثة، وكذلك الديمقراطية التي لم تُشكِّل لديها، ولدى شعبها، مشكلة لا تُحل إلا بالمعارك الفكرية التي تملأ باقي المجتمعات العربية.
إذاً، عند التقييم لا بد من الأخذ بعين الاعتبار جملة القيم الدينية والاجتماعية والتراثية للخصوصية التي تتمتع بها الدولة السعودية، وعدم تقييمها بالمقاييس السائدة في العالم، فلكل خصوصيته وتاريخه وثقافته، والسعودية تمتعت بخصوصيتها، فحسمت أمرها بأن عاشت مسلمة، وبالتالي، فإن تقييم أسلوب الحكم وقواعده وتنظيماته، غير المستوردة من الخارج، لا يمكن الوصول به إلى نتيجته العلمية إلا من خلال هذه القيم والخصوصية التاريخية والثقافية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي