التوأم السيامي للشركات العائلية

تأسست الشركات العائلية الكبرى في الخليج منذ السبعينيات على أكتاف مؤسسين كاريزماتيين صنعوا بيوتهم التجارية بإرث وسمعة تتوارثها الأجيال. لكن استمرار هذه الإمبراطوريات إلى المستقبل لم يعد رهينًا بشخصية المؤسس وحدها بقدر ما ارتبط بقدرة العائلة على التحول إلى كيان مؤسسي يحتكم إلى قواعد الحوكمة. ويمثل فصل "التوأم السيامي" للشركات العائلية: (الملكية والادارة) العلامة الفارقة للحوكمة، ومقياسًا حقيقيًا على نضج الممارسة المؤسسية. فليس من السهل عملياً الانتقال من الحضور الشخصي الطاغي إلى ممارسة مؤسسية راسخة، وأن تتوارى أجساد العائلة عن الإدارة اليومية بينما تظل روحها وهويتها نابضتين في قلب الشركة.

يتسم النموذج التقليدي للإدارة العائلية بمرونة تمنحه القدرة على التحرك السريع، لكنه يفتقر إلى وضوح الأدوار وإلى سياج مؤسسي يحمي القرارات من تغوّل العاطفة. تقدم الحوكمة هذا السياج الحامي عبر ميثاق مكتوب، ولجان مستقلة، وفصل صارم بين الاستراتيجية والتشغيل. غير أن هذه المعادلة شاقة التحقيق.

فالفصل بين الإدارة والملكية لا يُختزل في إجراء قانوني جامد، بل يمثل اختبارًا حقيقيًا لسلوك العائلة عند تراجع حضورها المباشر. ومن هنا تتجلى أربع ركائز محورية تحدد مصير هذه الشركات: القيادة، اتخاذ القرار، صلاحيات العائلة، والثقافة المؤسسية.

القيادة هي العقدة الأولى، فالمؤسس عادةً شخصية يصعب استبدالها، وغيابه يترك فراغًا نفسيًا قبل أن يكون إداريًا. في أمريكا، تراجعت شركات كبرى بمجرد غياب رمزها، فكيف إذن تُحافظ الشركة العائلية على حرارة العلاقة مع السوق بعد غياب الأب المؤسس؟ التحديات لا تقف هنا، فالتسلط الفردي لوريث أو صهر قد يفرغ الحوكمة من محتواها.

بينما فجوة الجيل الثاني والثالث تجعل السلسلة القيادية هشة. بعض الشركات واجهت ذلك بخطط تعاقب مكتوبة مثل Walmart وTata، أو بتجريد السيطرة المطلقة عبر تحويل الأسهم الممتازة تلقائيًا عند البيع أو الوفاة. وهناك من لجأ إلى تأسيس مجالس استشارية تحتفظ برؤية المؤسس لكن تمنح التنفيذيين حرية الحركة.

أما اتخاذ القرار، فهو ميدان الصراع بين الإستراتيجية والتشغيل، فكثير من الورثة ينظرون إلى أنفسهم كمديرين لا كملاك، فيتورطون في تفاصيل التشغيل، فتختلط مصالح توزيع الأرباح مع قرارات النمو. شهدت شركات مثل Ford وSamsung  هذه الأزمة، لكنها ابتكرت هياكل ملكية مزدوجة تضع فاصلاً بين رغبة الملاك في الأرباح السريعة وبين حاجة الإدارة للتوسع طويل الأجل. وهذه التجربة شاهدٌ على أن القرار العائلي يحتاج إلى وزن مؤسسي يحميه من النزعة العاطفية أو الضغوط اللحظية.

حدود صلاحيات العائلة هي معضلة ثالثة. منطق "الإدارة امتداد للملكية" يجعل العائلة تتغوّل على المديرين المحترفين. في المقابل، وضعت شركات مثل LVMH معادلة دقيقة باحتفاظ العائلة بحقوق التصويت والسيطرة العليا، مقابل ترك التنفيذ اليومي لمحترفين. كما أنشأت Nestlé مجالس إشرافية تراقب المديرين وتحمي الرؤية، بينما Mars فرضت حظرًا صريحًا على تدخل أي فرد من العائلة في التشغيل ما لم يكن عبر مجلس الإدارة. النموذج الأكثر مرونة يحول العائلة إلى "مستثمر صامت" يحتفظ بالعائد والرمزية دون أن يخنق الإدارة.

لكن كل ما سبق يظل هشًا إذا لم تتجذر ثقافة مؤسسية صارمة. لا تكفي الوثائق أو الدساتير العائلية إذا بقيت حبرًا على ورق. فالعبرة في التطبيق والحد من المجاملات والاستثناءات، فقد نجحت شركة Hermès  حين فرضت دستورًا عائليًا يُلزم الجميع بالحدود الفاصلة، فيما جسّد بيل فورد نموذجًا حيًا حين سمح للإدارة باتخاذ قرارات إستراتيجية جريئة مثل التحول إلى السيارات الكهربائية حتى على حساب أرباح قصيرة المدى. في المقابل، شركات عربية تعثرت لأنها لم تميّز بين أموال العائلة وأموال الشركة، أو تركت التركة بلا هيكلة فغرقت في نزاعات الورثة. وهنا يبرز الحل العملي في تأسيس صناديق أو مكاتب عائلية، أو إصدار وصايا واضحة تمنع تفتيت الكيان التجاري بعد رحيل المؤسس. إنَّ الصورة لا تخلو من أبعاد نفسية واجتماعية، فاسم العائلة قد يُربك الشركاء الأجانب فيشعرون بالندية المفقودة، أو قد تخلق العاطفة الأسرية ضبابًا يحجب الرؤية. تثبت التجارب العالمية أن إعادة الهيكلة القانونية، أو بناء العلامة التجارية، أو إنشاء مجالس مستقلة، أو حتى وضع آليات تلقائية لتحويل الأسهم المزدوجة إلى أسهم عادية، كلها أدوات تجعل العائلة لاعبًا حاضنًا لا متحكمًا.

هكذا يتبدّى المشهد: السيامي بين الملكية والإدارة لاالتوأم يمكن أن يظلّ متلاصقًا إلى الأبد. فإمّا أن تنجح العائلة في إجراء الفصل الجراحي عبر نضج الممارسة ورسوخ الحوكمة الصارمة، فتحافظ على إرثها وتطلق العنان للشركة لتغدو لاعبًا عالميًا، وإمّا أن تبقى أسيرة التداخل المرهق بين العاطفة والقرار. غير أن النجاح الحقيقي ليس في أن تُرفع الحوكمة كشعار لإرضاء الدائنين والجهات التنظيمية، بل في أن تتحول إلى رافعة جوهرية لقيمة الشركة. وحينها فقط يمكن القول إن التوأم قد انفصل بسلام، دون أن تفقد العائلة قلبها أو تخسر الشركة عقلها.


مستشار قانوني

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي