الأمن الغذائي .. لكيلا نصلي صلاة الاستسقاء بالنيابة

في شباط (نوفمبر) من عام 1971 اشترت حكومة الاتحاد السوفيتي محصول حبوب أمريكيا بمقدار ثلاثة ملايين طن ـــ ومن أهمها بالطبع القمح. هذا شكل ما يقارب 25 في المائة من إنتاج الحبوب الأمريكي وهو ما أدى إلى ارتفاع مخيف في الأسعار واضطراب في الإدارة الأمريكية التي لم تكن تتوقع أن تحدث عملية الشراء تلك إذ كان يعتقد أن السوفيت يخططون لشراء فقط 150 طنا فهالهم شراء تلك الكميات الهائلة. بالطبع، بعدما عرفت الأسواق العالمية الخبر اشتعلت النيران في الأسعار وتضاعفت بشكل لم يعرفه سوق شيكاغو للحبوب منذ تاريخ إنشائه ـــ 125 سنة ـــ مما دعا بعض المعلقين الاقتصاديين لتسمية الصفقة بالحدث الذي غير مجرى التاريخ، وتاريخ الغذاء بشكل أخص.
بعد تلك الحادثة بتسع سنوات، وفي يوم الرابع من كانون الثاني (يناير) 1980 قام الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بإصدار قرار يقضي بحظر تصدير القمح الأمريكي إلى الاتحاد السوفيتي في محاولة لتركيع وإخضاع السوفيت وإخراجهم من أفغانستان، واستمر الحظر 15 شهرا حتى أتى الرئيس الأمريكي رونالد ريجان وأنهاه. في مقالة رصينة نشرت في مجلة الشؤون الخارجية في خريف عام 1980 كتب المحلل السياسي ربورت باربليرج محللا تلك الحادثة واصفا إياها بالحادثة التي علمت الروس درسا بليغا في الأمن الغذائي، وضرورة التحكم في أهم سلعة في العالم، وتوقع في ذلك الوقت أن الحظر سيحفز السوفيت ليس فقط لتحقيق الاكتفاء الغذائي من القمح بل وحتى لتصديره، والتحكم في مصير الغير بدلا من انتظار الغير ليعطف عليهم، وهو ما تحقق فعلا.
الجشعون أيضا يتاجرون في مستقبل الدول. أفضل رواية أمريكية بيعت في عام 1903 تحدثت عن قصة حقيقية لمضارب جشع يستغل العقود في سوق شيكاغو للحبوب فتشتعل الأسعار ويتضور الناس جوعا ويغتني شخص واحد. الشركات الروسية اليوم بجشعها ضغطت بكل ما أوتيت من قوة لاستصدار قرار بحظر تصدير القمح الروسي حتى يعظموا أرباحهم من المحصول الأغلى في العالم، وحدث لهم ما أرادوا فالأسعار في ارتفاع والأنظار متجهة نحو أستراليا ونيوزيلندا رجاء ألا تتدخل الظروف المناخية لإشعال كمية نيران إضافية في الأسعار المتقدة. تجار الحبوب في أنحاء العالم يستغلون ابتعاد الحقول عن مواطنهم أبشع استغلال ولعل فضيحة القمح غير الصالح للاستخدام الآدمي في مصر تجسد تلك اللعبة في أوضح صورها.
سواء كانت الأسباب ظروفا سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو إنسانية حيوانية، النتيجة واحدة من ارتباك محاصيل القمح: ارتفاع في الأسعار وهلع من الجوع. نحن في المملكة كنا إلى وقت قريب نرفأ في نعمة الأمن الغذائي ولا ندري عما يدور في سهول روسيا وأودية أوكرانيا. ولكن اليوم الموضوع مختلف جدا؛ فقد بات استيراد القمح بكميات كافية موضوعا رئيسيا يتم بحثه داخل مجلس الشورى في مطالبات لرفع الكميات المتوافرة في الصوامع الحكومية، وإنها لمفارقة جديرة بالتمعن، فكيف وخلال بضع سنوات تغيرت أحوالنا الغذائية بشكل فارق؟ وهو الأمر الذي يحتاج إلى إعادة دراسة بشكل جاد وفوري.
لا أدعو إلى فتح الباب على مصراعيه لكل من هب ودب لزراعة القمح. بل إلى ترشيد في الشريحة التي تزرع فلا يزرع القمح إلا الصغار وبكميات محدودة. لا أدعو إلى زراعة في كل مكان. بل في الأماكن التي ثبت علميا أنها لم تتأثر مائيا من الزراعة ـــ والآبار الاختيارية التابعة لوزارة الزراعة كافية لإثبات ذلك. لا أدعو إلى زراعة كل المملكة، بل إلى اكتفاء يمنحنا حصانة من ابتزاز الجشعين ويمنحنا طمأنينة في الأزمات. لا أدعو إلى تصدير للقمح. ولكن فقط اطمئنان بأننا لن نشحذ روسيا أو أوكرانيا، أو نصلي صلاة الاستغاثة سائلين المولى ـــ عز وجل ـــ أن يرسل الغيث على نيوزيلندا نيابة عن الشعب النيوزيلندي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي