مؤشر السعادة
يبدو أن مصطلحات علوم الاقتصاد استطاعت أن ترسم جغرافيا جديدة للبلدان وسكانها أي عولمتهم ضمن مواصفات موحدة. فلدينا مثلا: الدول النامية والمتقدمة والمستوردة لسلع ومصدرة لسلع أخرى, والبشر: إما منتجون وإما مستهلكون وبائعون. وأصبح الإنسان مساحة تفتقد الخصوصية وتحول سلوكه في الأكل والشرب واللبس والسكن ليكون نمطيا يسير في اتجاه واحد. مثل الآلة حتى يستطيع أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط الإنتاج وبدلا من تبني المثل القائل إن الحاجة هي أم الاختراع تولد مفهوم جديد بأن "الاختراع هو أبو الحاجة"، إذ لا بد أن تظهر سلعة جديدة كل يوم. ومن هنا يدخل الإنسان دائرة الإنتاج التي لا هدف لها والآخذة في الاتساع إلى ما لا نهاية.
فالبشر بشكل عام بدأوا يتجهون إلى أنماط متشابهة في اللباس والسكن الخالي من أي هوية أو خصوصية، لكن من أهم الدلالات على وجود تغير في جغرافيا الشعوب ظاهرة انتشار"التيك أوي" أو الطعام المعد سابقا، الذي يتناوله الإنسان بسرعة أو واقفا فهي تدل على نمطية الاستعجال وتوفير الوقت للعودة مجددا إلى طاحونة العمل، الأمر الذي يشبه إلى حد بعيد إعطاء الوقود للآلة.
إن هذه الوجبة السريعة الحركية تعني التخلي عن مجموعة ضخمة من القيم الإنسانية المهمة، مثل أن يجلس المرء مع أعضاء أسرته أو أصدقائه في شكل حلقة ليتناول الطعام معهم.
كما بدأ البشر يتحولون إلى سوق يلقي إليهم بالسلع والمزيد من السلع حتى إن البيانات الاقتصادية استطاعت أن تروج لوقت طويل من الزمن جملة من العبارات تستخدم لوصف التطور الاقتصادي والاجتماعي للشعوب تسير ضمن سياق واحد في وصف البلدان فتقول مثلا ثقة المستهلك مع أنه يمكن القول ثقة المواطن من هذا البلد أو ذاك أو مثلا مبيعات التجزئة, أسعار السلع المعمرة, حيث إن كل ما يراد قياسه وأخذه في الاعتبار هي جيوب الأشخاص الذين يريدون أن يشتروا, وتغييب المظاهر الحياتية الأخرى. وأيضا عادة ما يأتي التركيز على معدلات الإنفاق لدى الأسر ويتم التغاضي عن معدلات الادخار, مع أن الادخار يشير كذلك إلى دلالة تعاف. وهناك سلسلة طويلة من البيانات ذات الاتجاه الواحد التي لا يسمح بقراءتها إلا ضمن تصورات معينة مثل بيانات مبيعات المنازل الجديدة أو بيانات أسعار المساكن، فكل ارتفاع في تلك القراءات يجب أن يكون إيجابيا، وكل انخفاض يشير إلى سلبية. وقد استطاعت تلك البيانات أن ترسخ قناعات في أذهان الناس بأن البشر يجب أن يستمروا بالشراء، ويبقوا دوما ضمن دوامة الاستهلاك ولا يتوقفوا أو يقتصدوا في مشترياتهم.
لكن بعيدا عن كل التعقيدات الحسابية لاستخلاص البيانات الاقتصادية لجأت بعض المراكز البحثية إلى إجراءات أقل تعقيدا وأكثر إنسانية في قياس أحوال الناس من خلال مؤشر السعادة الذي يعتمد سؤالا بسيطا هو "إلى أي حد أنت راض عن حياتك"؟!
ودامت سعادتكم رعاكم الله.