المفارقات الكبيرة بين الرأسمالية المتوحشة والرأسمالية ذات الوجه الإنساني!

منذ أن اندلعت الأزمة العالمية الاقتصادية والمالية في خريف عام 2008 والعالم يزداد تخبطاً في تفسير أسبابها ونتائجها، ليس على أساس أوضاع الحاضر حسب، بل تأثيراتها وتداعياتها على أوضاع المستقبل، خصوصاً وقد دفعت أعداداً كبيرة من البشر إلى البطالة بسبب تقليص وضيق سوق العمل وميادينه.
وعلى الرغم من أن أطياف التحليل الطبقي حسب كتاب جاك ديردا قد عادت إلى المخيّلة، بل وجدت طريقها إلى البحث، لا في خطط التنظير فحسب، بل على طاولات التشريح ومناضد رؤساء كبار المؤسسات المالية والاقتصادية، لا سيما مديري البنوك وشركات التأمين الكبرى، فإن الهدف الأساس كان إيجاد حلول ومعالجات سريعة تمنع من الانهيار الاقتصادي الشامل والتدهور لعموم النظام الرأسمالي، وهو ما تحسّبت له قيادات الدول الرأسمالية الكبرى.
وإذا كان الاقتصاد الإسلامي مفسرا لهذه الظاهرة فإن كتاب رأس المال الذي كتبه ماركس في ستينيات القرن الـ 19 قد اعتبر متحفياً لعصر مضى، إلا أنه أصبح الأكثر حضوراً في الوقت الحالي لتشخيص أسباب الظاهرة ومعرفة أبعاد الأزمة والبحث في نتائجها الخطيرة. إلا أن الماركسية بحكم تناقضها والرأسمالية كانت الأكثر قدرة في اكتشاف قوانين الرأسمالية، بل يمكن أن نطلق عليها أنها علم الرأسمالية بامتياز في حين أن علم الاشتراكية ظل علم المستقبل الغامض، ولعل فشل التجارب الاشتراكية أدّى إلى تصدّع الكثير من القناعات، بل وانهيارها لدرجة الكفر بالجدلية المادية والتاريخية. لكن ما حدث من انهيار اقتصادي ومالي لمصارف ومؤسسات مالية كبرى وشركات تأمين عملاقة، جعل المراجعة واجبة وضرورية حتى لبعض من تخلّوا عن الاشتراكية أو طلّقوها، فهم يريدون التحالف مع المنتصر، لا سيما بعد أن شعروا بظفر الرأسمالية على المستوى العالمي وانهيار الاشتراكية المدوّي، وهي صورة أواخر الثمانينيات التي ظلّت مهيمنة.
وبعد بضعة أشهر من تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية صدر كتاب مهم لثلاثة اقتصاديين بعنوان Good Capitalism, Bad Capitalism and the Economics of Growth and Prosperity ''الرأسمالية الحميدة، والرأسمالية الخبيثة، واقتصاديات النمو والرخاء'' وهو من تأليف روبرت أي ليتان، وويليام جيه باومول، وكارل جيه سكرام، والكتاب هو من إصدارات جامعة ييل الأمريكية، وبقدر دفاعه عن الرأسمالية ومستقبلها، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن جوانب ضعفها وهشاشتها، على الرغم من محاولات تلميع صورتها المستقبلية.
لقد ساد الاعتقاد لحد الرسوخ واليقينية أن الرأسمالية انتصرت بعد تهاوي الأنظمة الاشتراكية إثر انهيار جدار برلين عام 1989، وبعد سلسلة تراجعات وانتكاسات أصابت النظام الاشتراكي أو الاشتراكية المطبّقة، وبشكل خاص منذ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ونظّر لتلك الأطروحات مفكرون مثل فرانسيس فوكوياما الذي قال بفكرة نهاية التاريخ وصموئيل هنتنجتون الذي نظّر لفكرة صدام الحضارات وصراع الثقافات، وكرّست بعض تلك الأطروحات وطورتها عدوانياً ما حصل في 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001 من أعمال إرهابية وإجرامية في الولايات المتحدة، الأمر الذي دفع إلى الاعتقاد بحتمية الصراع، لا سيما بعد انهيار الشيوعية الدولية على مستوى المجابهة المباشرة وانتهاء عهد الحرب الباردة واختراع الإسلام عدواً أساسياً لا يمكن التفاهم معه، لأنه دين يحض على الإرهاب والعنف، مثلما روّجت وسائل الدعاية الأيديولوجية المتنفذة.
هكذا ساد الاعتقاد أن الرأسمالية هي الفصل الأخير من الصراع الدولي، وبدأ الحديث عن فرضيات اقتصاد السوق وفشل القطاع العام والدعوة إلى تشجيع وتعزيز الملكية الفردية لوسائل الإنتاج وعلى المستوى العام، خصوصاً أن دول العالم البالغة 192 دولة لم يعد فيها ما يمنع من ترويج وإعلاء شأن الملكية الفردية ودور الفرد، باستثناء كوبا وكوريا الشمالية، ومع ذلك فإن المرء يواجه صعوبة في تفهّم مسألة نجاح الرأسمالية، لا سيما بعد أزمتها الخانقة والتي لا تزال مستمرة، وقد تدوم إلى عامين آخرين حسب أكثر التقديرات تفاؤلاً، علماً بأن هذه الأزمة هي الأكثر عمقاً وشمولاً وتأثيراً من أزمة العام 1929-1933 التي نجمت عن الكساد والانكماش الاقتصادي ومن أزمة السبعينيات التي ترافقت مع ارتفاع أسعار النفط.
يركز كتاب الاقتصاديين الثلاثة على أربعة أنماط من الرأسمالية، الأولى- هي رأسمالية النخبة، الأوليغارشية، التي تتركز بيدها الموارد والسلطة وهي رأسمالية خبيثة حسب الوصف الذي يقدّمه الكتاب، ولعل أبرز الأمثلة لذلك هو رأسمالية روسيا الجديدة وبعض دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما يدرج المؤلفون بعض دول النفط في منطقة الشرق الأوسط.
وهذه الرأسمالية لا يهمها تعزيز التنمية بمعناها الشامل، الإنساني السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحقوقي والقانوني، بقدر ما يهمّها تعظيم إمكانات القابضين على الموارد والسلطة، وتحويل الأرباح إلى مصارف أجنبية وجني الأرباح السريعة، الأمر الذي يعاظم من حدّة التوتر الاجتماعي والطبقي، حيث يزداد أصحاب الثروة والسلطة غنىً، ويحرم الغالبية الساحقة منها ويزدادون فقراً وبؤساً. أما النوع الثاني من الرأسمالية فهي رأسمالية الدولة، ولكن تختلف عن رأسمالية الدولة ''الشيوعية'' التي طبقها لينين بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، لأن هذه الأخيرة تمتلك وسائل الإنتاج، في حين أن رأسمالية الدولة تعتمد على القطاع الخاص الذي يكون هو المتحكّم بالوسائل الأساسية للإنتاج، وتقوم الدولة بتوجيه الموارد إلى القطاعات التي يمكن أن تتصوّر أو تفترض نجاحها مثل ملكية الدولة للبنوك، ومثال رأسمالية الدولة الصين الشعبية الاشتراكية، حيث تسيطر على الجزء الأكبر من الموارد الاقتصادية، أما في الهند فإن الدولة تسيطر على 75 في المائة من النظام المصرفي. يعتقد البعض أن مثل هذه الرأسمالية يمكنها النجاح في إحداث النمو الاقتصادي وإنْ كان النمو يختلف عن التنمية الشاملة، ومثال ذلك هو بعض دول جنوب شرقي آسيا، التي استخدمت التكنولوجيا لخدمة الصناعة، واستخدمت العمالة المتعلّمة الرخيصة الكلفة، في الوقت نفسه مع التوسع في قطاع التجارة.
وقد يؤدي هذا النمو إلى التوسع السريع، لكنه من المحتمل أن يتعثر، وإذا كان نموذج سنغافورة هو الأقرب إلى الذهن، فلأنها هي الأكثر تقدّماً في مجال الصناعة. ولكن من نقاط ضعف الرأسمالية الموجهة هي أن البيروقراطية تعد كابحاً للتطور، وقد عانت دول جنوب شرقي آسيا من الأزمة المالية والاقتصادية، رغم محاولات منح استثمارات كبيرة من صناعات عجزت طاقاتها عن استيعاب تلك الاستثمارات، فتعرضت إلى الاختناق الذي كاد أن يصرعها، ولم تنفع معها الرأسمالية الموجهة.
النمط الثالث من الرأسمالية هو رأسمالية الشركات الكبرى، أو ما يمكن أن نطلق عليه الرأسمالية الإدارية، حيث يهيمن قطبان أساسيان، الأول: الشركات الكبرى مثل شركات السيارات والحديد والصلب وغيرها. أما الثاني فهو الذي تسيطر عليه حكومات أو تجمعات كبرى.
هذان النمطان يقودان إلى: وفرة ناتجة عن ضخامة حجم الإنتاج، ثم وفرة في الموارد المالية والبشرية، لتطوير وتعزيز النمو الاقتصادي، الناجم أيضاً عن وفرة الرأسمال الذي يمكن ضخّه في الاقتصاد، وهو ما يؤدي إلى الابتكار والتجربة.
إن غرب أوروبا والولايات المتحدة واليابان، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية كانت مثالاً لنموذج رأسمالية الشركات الكبرى، وقد وصف المفكر الاقتصادي الكبير صاحب نظرية النمو الاقتصادي جون كنيث جالبرايت (الأستاذ في جامعة هارفارد) هذه الشركات العملاقة، بأنها دول صناعية جديدة. أما النموذج الرابع، فالمقصود به هو الرأسمالية الريادية (المبتكِرة)، الذي يضم شركات صغيرة مستقلة، لكنها مخترِعة وغير تقليدية وتقوم بتغيير الكثير من أنماط سلوك ما اعتاد الناس عليه، عبر الابتكارات التي يكون لها حصة الأسد من النمو الاقتصادي الطويل الأمد.
إن ترويج هذه الرأسمالية واستنادها إلى موضوع الاختراعات الحديثة يقوم على إمكانية، استغلالها تجارياً، ولعل ذلك سيؤدي إلى تغييرات جذرية، وهو ما أحدثته المبتكرات والاختراعات، في حياتنا خلال القرنين ونيّف الماضيين مثل المحرك البخاري والكهرباء والسيارة والطائرة ومكيّف الهواء والكمبيوتر والبرمجيات وشبكة الإنترنت والثورة الرقمية (الديجيتل) وغيرها من إنجازات الثورة العلمية التقنية، وقد اعتمدت هذه الاختراعات والمبتكرات على مبادرين ورياديين لكن ذلك يحتاج إلى ربطها باقتصاديات أكبر، حيث تقوم شركات على الابتكار وأخرى على تحسين نوعية المنتج وتسويقه وإنتاج السلع والخدمات الناتجة عنه من الأفكار الجديدة وعلى مستوى كبير من الأرباح.
إن جزءا من أسباب الأزمة يعود إلى هذه الريادية المدمِّرة في القطاع المالي وخاصة التمويل الباهظ الثمن، ويلاحظ أن الأزمة بدأت بقطاع العقارات ثم امتدّت إلى بقية القطاعات الاقتصادية، حيث كانت موجتها الأكثر حدة وسرعة في القطاع المصرفي والتأميني، الأمر الذي احتاج إلى موازنة جديدة وإعادة تقييم الأولويات بما يتناسب مع قدرة السوق وحاجته على استيعاب المبتكرات، ولذلك اضطرت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان وغيرها إلى دعوة ''الدولة'' للتدخل وإنقاذ الشركات والمصارف الكبرى، وكان ذلك ضرورياً لمنع الاقتصاد من الانهيار.
ولعل التنمية بمفهومها الشامل والإنساني التي ينتظر منها إحداث الرفاه والرخاء المادي والمعنوي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقانوني والحقوقي، لا بدّ أن تركّز على دور الفرد ككيان مستقل وعلى دور المجتمع ككل وخاصة المجتمع المدني والنقابات والاتحادات المهنية، إضافة إلى دور القطاع الخاص، بما فيه الشركات كوحدات مستقلة.وإذا كانت الرأسمالية الريادية ''الحميدة'' كما يطلق عليها المنظرون الاقتصاديون الغربيون، هي الأكثر تأثيراً في دفع عجلة التنمية، لا سيما بتوفير فرص الابتكار وخلق أسواق جديدة، فإن الأمر في حاجة إلى وقفة جديدة لمراجعة قوانين تطور الرأسمالية، بما فيها قانون القيمة الزائدة وقانون التطور الاجتماعي المتفاوت، لمعرفة أن الأزمة مرتبطة وصميمة بطبيعة الرأسمالية، ولا يمكن الفكاك منها، على الرغم من قدرة الرأسمالية على تجاوزها وتجديد نفسها، لكنها ستكون مؤثرة وعميقة كلّما ازداد التفاوت الاجتماعي عمقاً، وكلما تعاظم الغنى والفقر، لدرجة لا يمكن المواءمة بينها أو إيجاد تسوية مؤقتة لحل الصراع بينهما، وهنا سوف لا يكون الفرق واضحاً بين رأسمالية متوحشة أو رأسمالية ذات وجه إنساني، فالأمر سيّان طالما ظل الاستغلال بحق الإنسان داء عضال!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي