مواسم المصالح المعطلة
.. وانقضى شهر رمضان، شهر الخير والبركة والإحسان. انقضى بعد أن صام فيه من صام، وقام فيه من قام، وعمل فيه من عمل. واستقبلنا بعده عيد الفطر المبارك، فاختلطت مشاعر الحزن على فراق الشهر الكريم، والفرح ببهجة العيد وأجوائه. وبانقضاء الشهر الكريم والعيد المبارك انقضى موسمان من مواسم عديدة في التقويم السنوي السعودي، وها نحن نتحرى بعدهما مواسم الحج وعيد الأضحى المبارك والعام الهجري الجديد، وعددا آخر من المواسم المتعلقة بإجازات المدارس وعطلة الربيع ومنتصف العام واليوم الوطني والإجازة الصيفية وغيرها الكثير. ومع أن هذه المواسم تمثل فرصة لكسر جمود العمل وتجديد النشاط وتوثيق العلاقات الأسرية والاجتماعية، إلا أن هذه المواسم أصبحت تشكل عبئا كبيرا على حياة الناس ومعيشتهم واقتصادهم، بالنظر إلى ما يصاحبها من تقاليد وعادات وممارسات هي في معظمها دخيلة على أسس الثقافة العربية والإسلامية. وأصبحت هذه المواسم بالتالي سببا في تعطيل المصالح والإضرار بها، وتعطيل عجلة التنمية والاقتصاد الوطني. وسأعرض هنا بعضا من أوجه هذا التعطيل، عسى أن يدفع هذا الطرح لمراجعة جادة لهذا النمط الذي نعيشه في هذه المواسم، ويؤسس لدعوة جادة للعودة إلى روح الدين الإسلامي القويم الذي يدعو إلى العمل، ويصنفه ضمن أسمى أشكال العبادات.
أول هذه الأوجه هو نمط العمل وساعات الدوام في شهر رمضان المبارك. فالمعروف أن ساعات العمل الرسمية تنخفض في هذا الشهر الكريم إلى خمس ساعات يوميا في القطاع الحكومي، وست ساعات في القطاع الخاص. والمعروف أيضا أن يوم العمل الرسمي في هذا الشهر يبدأ في الساعة العاشرة في كل مؤسسات القطاع الحكومي ومعظم مؤسسات القطاع الخاص. والحقيقة، أن هذا الأمر يوقع هدرا كبيرا وضررا فادحا على مستويات الإنتاجية في العمل، التي يعلم كلنا ووفقا للكثير من الدراسات والإحصاءات الرسمية وغير الرسمية مدى تدنيها على مدار العام، وتزداد انحدارا في هذا الشهر الكريم. هذا الواقع يحدث الكثير من الضرر والتعطيل لمصالح الناس، خاصة إذا أضفنا إلى قصور ساعات العمل تلك النفسية العصبية التي تسم الموظفين، والتي تتذرع بالصيام غطاء لها، لتزيد من عمق معاناة المواطن في إنجاز مصالحه. والغريب، أن هذه الحالة تحدث في هذا البلد الذي يعد قائد البلدان الإسلامية وإمامها، ومع ذلك، فإن أيا من تلك البلدان الإسلامية الأخرى لا يعمد إلى مثل هذا التعديل في مواقيت العمل في شهر رمضان المبارك، وتسير الحياة فيها وفيه على ما تسير عليه في أشهر السنة كافة، مع أن بعضها يعيش الظروف وحرارة الأجواء التي نعيشها في المملكة ذاتها. قد يقول البعض إن هذا التعديل مطلب مهم لإتاحة الفرصة لأداء العبادات في شهر العبادات، ولكن أليس العمل عبادة، أليس قضاء مصالح الناس عبادة، أليست التنمية عبادة، ألم تزرع هذه العادة فينا الكسل وقلة الإنتاج وسوء الخلق وحدة المزاج. في الحقيقة، لا أدري ما الداعي لمثل هذا التعديل، ولا أدري متى ابتدأت هذه البدعة ولا من الذي ابتدعها. ولكنها بكل تأكيد دخيلة على ثقافة المسلمين. فهل من مراجعة لهذه البدعة التي أعدها بدعة غير حسنة تندرج في رأيي فيما نهى عنه ديننا الحنيف.
ثاني الأوجه هو في موضوع الإجازات وعطل الأعياد. إذ تمتد عطلة عيد الفطر المبارك، ومثلها عطلة عيد الأضحى المبارك، إلى نحو الأسبوعين في القطاع الحكومي، والأسبوع في القطاع الخاص. هذا الواقع هو أيضا أحد أوجه الخصوصية السعودية التي تتميز بها عن سائر الدول الإسلامية التي تحتفل مثلنا بهذين العيدين. والمشكلة، أن القطاع الحكومي لا يزال هو القطاع الرئيس في دورة التنمية، ويلعب دور المحرك والدافع والممول للقطاع الخاص. وبذلك، فإن تعطيل القطاع الحكومي لأربعة أسابيع في هذين العيدين يشكل عبئا كبيرا على مصالح المواطنين وشركات القطاع الخاص، إذ تتوقف فيها الخدمات الحكومية كافة، ويتعطل فيها صرف مستحقات المقاولين والموردين. لا أدري كيف يمكن أن تتوقف البنوك والمؤسسات المالية عن العمل لأسبوع كامل أو يزيد، وكيف يمكن أن تؤجل مصالح الناس ومعاملاتهم في دوائر الأجهزة الحكومية لمثل هذه المدد الطويلة. كل الأجهزة الحكومية ودوائر التنمية هي في الحقيقة ثغور من ثغور العمل، لا تقل أهمية عن ثغور الدفاع عن الوطن، فهل يتخيل أحد أن يتوقف العمل في أجهزة الدفاع وحراسة الحدود مثلا ولو ليوم واحد. ثم أن العالم اليوم أضحى قرية صغيرة، وهناك الكثير من المعاملات التجارية وحتى الرسمية والحكومية تتم مع جهات عالمية، وهذا الواقع يعمق مشكلة التواصل القائمة أصلا بسبب اختلاف أيام عطلة نهاية الأسبوع ليزيد الطين بلة، ويعطل عجلة التنمية بمثل هذا التسويف والتطويل غير المبررين.
ثالث الأوجه يتعلق بقضية الإجازات بعمومها، وأقصد هنا الإجازات السنوية للموظفين. وهذه أصلا حق مكتسب لكل موظف ليريح بدنه ويجدد نشاطه ويقضي شيئا من مصالحه وأموره الخاصة. ولست هنا لأتحدث عن طول مدة هذه الإجازات، التي يبلغ معدلها 30 يوما في السنة، وتصل في بعض المؤسسات وبعض الدرجات الوظيفية إلى 45 يوما وربما تزيد، مع أني أجدها مددا طويلة إذا أضفنا إليها مدد العطل الرسمية في الأعياد والمناسبات، وخاصة إذا قارناها بمعدلات الإجازات التي يتم منحها في المؤسسات الحكومية والخاصة في كثير من الدول الأخرى، التي لا يزيد معدل الإجازات السنوية فيها عن ثلاثة أسابيع في السنة. ولكني أود هنا أن أشير إلى ظاهرة تعطيل المصالح التي تصاحب مثل هذه الإجازات، خاصة في ظل غياب الحس المؤسسي في العمل، وسيطرة العمل الفردي خاصة في القطاعات الحكومية. فكم منا تعطلت مصالحه بسبب غياب موظف عن العمل ليتمتع بإجازته السنوية، بعد أن أغلق درج مكتبه على ما لديه من معاملات، وكم من قضايا في دوائر المحاكم الشرعية يتأخر النظر فيها لتمتع القضاة بإجازاتهم السنوية، وكم من مطالبات مالية لمقاولين وموردين تعثرت وتعطلت لأن الموظف الفلاني في إجازة، أو الممثل المالي في إجازة، أو مدير الإدارة في إجازة. هذا الواقع يتطلب معالجة حاسمة، ليس بالضرورة بوقف أو حتى تقليل مدد الإجازات، بل بتطوير أنظمة وآليات تمنع الموظف من التمتع بإجازته السنوية قبل أن ينجز ما لديه من مهام ومعاملات، أو على الأقل قبل أن يوكل بها أحدا من زملائه، بما يضمن سلاسة سير العمل ومنع تعطيل المصالح.
آخر الأوجه هو قضية أشبعها النقاش دون حسم، وهي قضية عطلة نهاية الأسبوع، والحاجة الملحة إلى تعديلها لتكون يومي الجمعة والسبت بدلا من يومي الخميس والجمعة. وهي القضية التي أضعها ضمن مظاهر تعطيل المصالح، بالنظر إلى الواقع الذي نعيشه جراء هذا الاختلاف عن كل دول العالم وحتى الإسلامي منها، والذي يحدث فجوة زمنية كبيرة في التعاملات بين مؤسساتنا ومثيلاتها في الدول الأخرى. ولست أدري في الحقيقة لماذا تصبح مثل هذه القضية البديهية عقبة كأداء في مسيرة التنمية، وموضوعا حساسا يستعصى حتى على الدراسة الجادة والقرار الحاسم.
خلاصة القول، الوقت من ذهب، ومسيرة التنمية وطموحات القيادة والشعب لا تحتمل التسويف والتعطيل والمماطلة. والوقت فوق ذلك أمانة كلنا محاسب عليها، وعلينا أن نحشد طاقاتنا لاستثمار الوقت الاستثمار الأمثل، مذكرا مرة أخرى أن العمل كله عبادة إن أخلصنا النية لله ـ عز وجل. والله ـ عز وجل ـ قال في محكم كتابه العزيز "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"، فهل نحن مؤدون لهذه الأمانة وهذه المهمة، مهمة الاستخلاف في الأرض، على أكمل وجه؟.
أختم بتهنئة خالصة بحلول عيد الفطر المبارك، وأدعو الله العلي القدير أن يعيده علينا وعلى أمتنا أعواما عديدة بالخير واليمن والبركات.