المحامي والمعالج الشعبي
كان اللجوء إلى المعالجين الشعبيين أو منتحلي العلاج الشعبي أمرا سائدا للغاية في المملكة، حيث كان مستوى التعليم منخفضا للغاية، والوعي الصحي في أدنى درجاته، والمستشفيات والمراكز الصحية نادرة الوجود، بل كان الناس يثقون بهؤلاء المعالجين أكثر من ثقتهم بالأطباء في المستشفيات، حتى أنهم كانوا يتناقلون بينهم كيف أن مريضا ساءت حالته الصحية عندما دخل المستشفى وتحسنت عندما أعطاه أحد المعالجين وصفة شعبية. ثم تغير الحال مع ارتفاع مستوى التعليم والوعي الصحي، وانتشار المستشفيات والمراكز الصحية؛ ليبقى اللجوء إلى المعالجين الشعبيين محدودا للغاية.
هذا الحال شبيه إلى حد ما بما هو عليه الحال لدى من يحتاجون إلى الخدمات القانونية سواء في الاستشارات أو المرافعة أمام المحاكم أو جهات الفصل في المنازعات، فلا تزال نسبة كبيرة من الناس ترى أن اللجوء إلى المحامي المتخصص ترف لا حاجة لهم إليه، فيعتمدون على أنفسهم، أو على "واسطة" يعتقدون أنها قادرة على فعل كل شيء، وفي أحسن الأحوال يوكلون المهمة إلى معقب أو "دعوجي" يطمئنون لصوته المرتفع والسنوات الطويلة التي أمضاها بين أروقة الجهات الحكومية. وهذا الحال ليس محصورا في الأفراد فقط، بل يشاركهم فيه بعض المؤسسات التجارية والشركات الصغيرة والمتوسطة.
وعلى الرغم من أن ثقافة الاستعانة بمحام آخذة في الانتشار منذ صدور نظام المحاماة (1422هـ)، إلا أنها ما زالت لدينا محدودة للغاية مقارنة بدول ومجتمعات كثيرة؛ حيث يعد المحامي ركيزة أساسية في كل ما يتصل بالإجراءات القانونية المتعلقة بنشاطات الأفراد والمؤسسات أو تصرفاتهم، بل هو ركيزة أساسية في بنية العدالة بوجه عام، وتعلق كثير من التصرفات والإجراءات القانونية على تصديقها من محام متخصص، يتحمل مسؤولية التأكد من صحة الإجراءات والمعلومات التي يتولى مراجعتها.
لا شك أن هناك تحسنا تدريجيا في النظرة إلى المحامي كشريك في إدارة العدالة وحفظ الحقوق، إلا أن هناك تحديات كبيرة تواجه العمل القانوني المحترف في المملكة لأسباب كبيرة أركانها: التأهيل الشرعي والقانوني لطلاب كليات الشريعة والقانون، وآليات الترخيص للمحامين، والمؤسسة المهنية التي تضم المحامين، وأخيرا موقف الجهات القضائية والإدارية من المحامي.
على صعيد تأهيل طلاب كليات الشريعة والقانون؛ أعتقد من واقع خبرة مهنية وأكاديمية أنه يحتاج إلى مراجعة شاملة من ناحية الشكل والمضمون، إذ إن هناك فجوة كبيرة بين محتوى المقررات الجامعية وواقع البيئة القانونية القائمة في المملكة سواء في الجوانب الشرعية أو النظامية، وأحيل في ذلك لأول مقال كتبته في هذه الصحيفة بعنوان: "دراسة القانون في المملكة .. الواقع والتطلعات".
أما شروط وآليات الترخيص للمحامين؛ فهي تقليدية للغاية تعتمد على الحصول على مؤهلات علمية معينة حددها النظام وخبرة لا تتجاوز سنتين لمن تخرج حديثا؛ وذلك في نظري لا يكفي لمن يعهد إليهم الناس بأموالهم وأدق أسرارهم. نعم سيصبح لدينا مئات المحامين المرخصين، لكن هل سيصبح لدينا مئات المحامين المؤهلين حقيقة لمزاولة مهنة المحاماة؟ لا أعتقد ذلك؛ في ظل غياب وجود اختبار مهني يؤهل للترخيص في تخصص معين ويحدد جهات ودرجات التقاضي التي يجوز للمحامي أن يترافع أمامها، حماية لحقوق الناس وضمانا لحسن سير العدالة.
والمحامون يعملون بلا مؤسسة مهنية متخصصة تراقب أعمالهم من جهة وتحفظ حقوقهم من جهة أخرى، تقوم الإدارة العامة للمحامين في وزارة العدل واللجنة التي نص عليها نظام المحاماة بجهود تشكر، لكن هي مرحلة انتقالية لا أرى أنها تلائم التغيرات والتطورات التي تمت في النظام القضائي في المملكة. فمضي أكثر من تسع سنوات على صدور النظام وإصدار نظام القضاء الجديد ونظام ديوان المظالم، كل ذلك يوجب مراجعة نظام المحاماة ليتلاءم مع هذه التطورات الإيجابية؛ فلا تقل رغبتنا في وجود محامين أكْفاء عن رغبتنا في وجود قضاة أكفاء.
وأخيرا، فإن التحسن التدريجي الذي طرأ على موقف الجهات القضائية والإدارية من المحامين أمر لا يمكن إنكاره مقارنة بما كان عليه الحال قبل سنوات عديدة. ومع هذا فالأمر يحتاج إلى تجاوز نظرة نمطية لدى بعض القضاة وموظفي الجهات الإدارية تجاه المحامي، وفي الوقت ذاته أن يعي بعض المحامين دورهم؛ فلا يتصرفون "كتجار للعدالة" إنما كرجال عدالة؛ لا تقل مسؤوليتهم ولا أهميتهم عن القضاة والمحققين ورجال الأمن وموظفي الجهات الإدارية.