«تي بارتي» .. رياح العنصرية الأمريكية تعترض طريق أوباما
أغلب الظن أن مجموعة "تي بارتي" مجهولة الأصل والدلالة لدى الرأي العام العربي، فهذا الأخير منشغل أكثر بمتابعة المسلسلات الرمضانية حول الأزواج والعنوسة ومجمل تلك الحكايات المكررة، وغير مكترث بالدروس الصادمة للأحداث التي عرفتها العاصمة الأمريكية الأسبوع الماضي، حيث تظاهر عشرات الآلاف (حتى لا نتحدث عن مئات الآلاف) من أنصار اليمين المتشدد في الولايات المتحدة في المكان الذي ألقى فيه مارتن لوثر كينج خطابه الشهير "لدي حلم" في واشنطن قبل 47 عاما تماما، في تظاهرة نظمتها المجموعة التي لم تعد، بعد تنظيم المظاهرة، مجهولة الأصل والدلالة.
وأغلب الظن أيضا، أن عديدا من مؤيدي الرئيس الأمريكي باراك أوباما، كانوا صادقين ومتفائلين أكثر من اللازم، عندما اعتقدوا أن انتخابه كأول رئيس أسود للولايات المتحدة قد يؤذن بحقبة من سياسات ما بعد العنصرية، لولا أن الخلاصات المؤرقة التي اطلع عليها هؤلاء في المسيرة سالفة الذكر، تدفعهم لإعادة طرح لائحة من الأسئلة المقلقة.
ومن المثير للسخرية، أن تجهل جماعة "تي بارتي"، وهي تُروج لهذه الأطروحات العنصرية، بأن مكان انعقاد مظاهرة الواشنطن دي سي الأخيرة، هو الأماكن التي تشهد على ماضٍ أسود من التطهير العرقي والإبادة التي تعرّض لها الهنود الحمر، (على غرار ماضي مكتبة الكونجرس الأمريكي للمفارقة)، ومن المثير للسخرية أيضا، أن يكون أبرز باحث عالمي متخصص في هذا الموضوع، يقيم في الولايات المتحدة دون سواها، ونتحدث عن الباحث السوري منير العكش، مؤلف كتاب "تلمود العم سام".
تنحدر آخر الطبعات العنصرية الأمريكية من "بوسطن تي بارتي"، وتعني حفل شاي بوسطن، وهو اسم أُطلق على غارة قام بها المستوطنون الأمريكيون على ثلاث سفن بريطانية كانت ترسو في ميناء بوسطن في 16 كانون الأول (ديسمبر) 1773، حيث أفرغ المستوطنون الذين تنكروا في زي الهنود 342 صندوقا من الشاي في مياه الميناء ليتجنبوا دفع الضريبة البريطانية على الشاي، وجاء رد الفعل البريطاني متشددا؛ مما وَحّد المستوطنين، ومَهّد لحركتهم تجاه الاستقلال.
وتراهن مجموعة "تي بارتي" على توظيف قضايا وقلاقل الضرائب والتدخل الحكومي في شؤون المواطنين، بهدف استقطاب المؤيدين والأتباع، بمن فيهم أتباع لهم مكانتهم من النخبة السياسية والإعلامية والاقتصادية طبعا، ويكفي هذا الصدد، أن يكون مهندس هذه المسيرة، مقدم البرامج الإذاعية والمعلق السياسي الأمريكي المعروف جلين بيك، ويكفي، في الشق السياسي الصرف، أن ينتمي إلى المجموعة 44 نائبا أمريكيا، أعلن 21 منهم أخيرا صراحة تأييدهم لحق إسرائيل في القيام بضربة عسكرية ضد المواقع النووية الإيرانية، وعلى ذمة ما نقرأ في مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية في تقرير نشرته الثلاثاء 27 تموز (يوليو) 2010، فإن النواب الأمريكيين الذين شكّلوا المجموعة "شدّدوا على حق إسرائيل في استخدام كل الوسائل لمواجهة وإزالة التهديدات النووية التي تمثلها الجمهورية الإيرانية، ومن بين تلك الوسائل استخدام القوة العسكرية".
ومع أن عديدا من النواب الجمهوريين أرجأوا مشاركتهم بسبب قلقهم من الجانب المشوش وغير الواضح للمنظمة، تاركين الظهور للنائبة سارة بالين (التي كانت مرشحة لمنصب نائب الرئيس خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية 2008)، إلا أنه من المهم التذكير بدلالات فوز الجمهوري سكون براون، باسم المجموعة العنصرية، بكرسي السيناتور تيد كينيدي في ماساشوست، والبقية على ما يبدو في الطريق، بالنظر إلى صعود أسهم التطرف اليميني في الولايات المتحدة خلال السنين الأخيرة، بسبب تفاعل عوامل عدة، خاصة العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وطبعا، الدينية، إلى درجة تدفع المتتبع لأن يتساءل عما إن كانت مجموعة "تي بارتي"، مجرد "نسخة مُعدّلة" إيديولوجياً لمجموعة "كوكلاكس كلان" K.K.K سيئة الذكر، ونتحدث بالطبع عن المنظمة العنصرية التي أنشأها بعض المتعصبين البيض ضد الزنوج عام 1865 في الولايات الجنوبية بعد تحرير العبيد.
ومن باب التأكيد على عنصرية وتطرف إيديولوجية "تي براتي"، مهم جدا التذكير بجملة من الإشارات المقلقة المصاحبة لهذه التظاهرة:
ـ هناك أولا صدمة التصريحات التي أدلت بها النائبة سارة بالين، التي قد ترشح نفسها للرئاسة خلال الانتخابات المقبلة 2012، عندما طالبت أمام الحشود بأنه "علينا أن نعيد لأمريكا شرفها".
ـ رَكّزت أغلب القصاصات الإخبارية التي واكبت حدث المسيرة بشكل كبير عن رمزية تنظيم الحدث في المكان نفسه الذي ألقى فيه مارتن لوثر كينج يوم 28 آب (أغسطس) 1963، خطابه الشهير، وأفصح خلاله عن حلمه الأشهر بالتأسيس لمساواة عرقية في الولايات المتحدة، وهو الحُلم، الذي اعتقد العديد أن انتخاب باراك أوباما سيُعجّل بتحقيقه، قبل أن تنقلب الأمور رأسا على عقب على هامش تنظيم المظاهرة من جهة، وأيضا، بسبب تأمل عديد من المبادرات والأحداث التي جرت في حقبة تولي أوباما كرسي الرئاسة.
ـ أصرَّ العديد من الحضور المشارك في المظاهرة على عرض صور مستفزة ومهينة للرئيس الأمريكي (بحكم أنها تندرج في باب "حرية التعبير"، هناك في المجال التداولي الأمريكي)، نذكر منها على الخصوص، صورة تُظهر باراك أوباما وداخل فتحتي أنفه عظمتان وأخرى للبيت الأبيض وأمامه حديقة مزروعة بالبطيخ في التجمعات التي تقيمها حركة "تي بارتي"!
ـ عدم اقتصار النزعة العنصرية لهذا التيار اليميني المتشدد على معاداة السود بمن فيهم رئيس الولايات المتحدة، إلى درجة وصف أوباما بأنه "عنصري" وتشبيه إدارة أوباما بأنها "كوكب القردة"، وإنما الإفصاح عن مبادرة عنصرية متطرفة ضد مسلمي الولايات المتحدة، فيما يُعتبر تحصيل حاصل في واقع الأمر؛ لأن المجموعة العنصرية التي لا تتردّد في الإفصاح عن خطاب عنصري ضد الرئيس الأمريكي ومعه السود في الولايات المتحدة، يسهَل عليها الانخراط في شيطنة المسلمين في الولايات المتحدة، إلى درجة إعلان بعض قيادييها أخيرا عن القيام بمظاهرة ضد المسلمين في ولاية كاليفورنيا يصطحبون فيها الكلاب ثم يطلقونها على المصلين المسلمين أثناء تأديتهم شعائر صلاة الجمعة، بين الفينة والأخرى، تحت ذريعة مثيرة للشفقة والذهول، أشارت إليها صحيفة "فالي نيوز" Valley News الجمهورية، مفادها أن "هناك مخططا لبناء مسجد في تيموكلا فالي"، وأن "الإسلام ليس دينا، بل هو حركة سياسية عالمية تسعى للسيطرة على العالم، كما يسعى لإخضاع العالم لأحكامه وقوانينه، إنه يبيح الكذب ويحث على قتل الكلاب". (واقتصرت ردود فعل المسؤولين المسلمين، حتى حدود اللحظة، على التنديدات الصريحة التي صدرت عن مجلس العلاقات الإسلامية ـــ الأمريكية CAIR في مدينة لوس أنجلوس). سنترك جانبا تأمل طبائع التطرف والتعصب الصادر عن مجموعة "تي بارتي" ضد المسلمين، على اعتبار أنها تندرج بالضرورة ضمن موجة الإسلاموفوبيا الأمريكية والأوروبية، وبالتالي لم تعد أمرا "صادما" بالنظر إلى سياق هذه الموجة الغربية من العداء للإسلام والمسلمين، حتى نُعرّج على مأزق تحالف صعود الأصوات العنصرية في الولايات المتحدة مع ما يُشبه التأسيس لانقلاب سياسي للجمهوريين ضد الديمقراطيين. وقد تكون إحدى أهم إشارات هذا الانقلاب، أو التمهيد له على الأقل، ثقل تصريحات سارة بالين، ودعوتها أمام الحضور الحاشد في المظاهرة بأن يجتهد هؤلاء لـ "إعادة الشرف لأمريكا"، وهي التصريحات التي جسّدت عناوين كبرى نشرات الأخبار في أهم الفضائيات الأمريكية والأوروبية، وتكمن أهمية هذه التصريحات في أن المعنية، تُعتبر اليوم نائبة فوق العادة لأن تُرشّح نفسها للرئاسة خلال الانتخابات المقبلة 2012.
ومع أن أغلب المشاركين في المظاهرة إياها، يَدّعي أنه محافظ أولا وأخيرا، وأنه لا يُقِر بصواب رأي الديمقراطيين والجمهوريين، إلا أن هذا الإقرار يدْحضه مشاركة سارة بالين تحديدا، باعتبارها منافسة باراك أوباما، وإحدى رموز الحزب الجمهوري، وليس صدفة أن تتميّز ليلة افتتاحية المظاهرة، باهتزاز إحدى القاعات من التصفيق حين تحدّث الممثل الجمهوري السابق توم تانكريدو منددا بسياسة باراك أوباما، ومُحذرا من تعدد الثقافات التي تهدد النموذج الغربي، قائلا بالحرف: "ثقافتنا هي الأفضل".
وبالنظر إلى هيمنة المرجعية البراجماتية/ النفعية على العقل السياسي الأمريكي، فمن غير المستبعد أن يستغل الجمهوريون قلاقل وتبعات الخلافات والتوترات بين الأمريكيين السود والبيض بشكل متكرر على مدى الأشهر الـ 18 التي مرت منذ تولي أوباما الحكم، من أجل التسريع بوتيرة الانقلاب السياسي/ الانتخابي على أوباما، خاصة أن اليمين واليسار في الولايات المتحدة يتبادلان الاتهامات بإقحام قضية العرق في الخطاب السياسي، ومن هنا إقرار خبراء بأنه لا مفر من هذا المعطى، نظرا إلى وضع أوباما كأول رئيس غير أبيض للولايات المتحدة، إلى درجة دفعت بالكاتب مايكل جيرسون إلى التأكيد في مقال رأي صدر أخيرا في يومية "الواشنطن بوست" أن "الصراع العرقي هو أعمق جروح أمريكا ولم يلتئم جيدا بعد".
ومن علامات عدم الالتئام هذه، التذكير بأن القلاقل بين الأمريكيين السود والبيض، أسهمت عمليا، في التأثير سلبا على شعبية الرئيس الأمريكي، إلى درجة حديث بعض المتتبعين عن كون ذات القلاقل كانت أحد مصادر الإلهاء عن جدول أعماله السياسي.
ونذكر من بين أهم معالم هذه القلاقل، لجوء وزارة الزراعة للضغط على مسؤولة سوداء لتستقيل بعد مزاعم بأنها مارست التمييز ضد مزارع أبيض لتعتذر الوزارة بعد ذلك بيوم لتسرعها في التصرف ودون توافر الحقائق، ونذكر كذلك، تعرُّض أوباما لانتقادات لاذعة في تموز (يوليو) الماضي لتصريحه بأن الشرطة "تصرّفت بغباء" حين ألقت القبض على هنري لويس جيتس، الباحث في جامعة هارفارد، وهو أسود بتهمة اقتحام منزله الخاص، والمثير، أن هذه الانتقادات صدرت في ذروة نضال البيت الأبيض لتمرير إصلاحات نظام الرعاية الصحية التي وضعها.
كما تأكد خلال الآونة الأخيرة، إسقاط وزارة العدل لاتهامات ضد جماعة "نيو بلاك بانثر" بترويع ناخبين؛ مما يثير انتقادات من جماعات محافظة تقول إن الرئيس الأسود "لا يريد محاكمة أبناء عرقه لارتكاب انتهاكات للحقوق المدنية"، وتتجلّى أُسُس هذا التمييز عندما نأخذ في عين الاعتبار أن السود يُمثلون نحو 13 في المائة من سكان الولايات المتحدة، كما أن متوسط دخولهم أقل، وغالبا ما تكون احتمالات حصولهم على وظائف أقل من الجماعات العرقية الأخرى، وأخيرا وليس آخرا، تُعتَبر احتمال إلقاء القبض عليهم وصدور أحكام أقسى ضدهم أكبر.
وما قد يُضعِف موقف الديمقراطيين في مشروع الانقلاب الجمهوري القادم، استحضار هؤلاء بعض وعود أوباما في حملته للانتخابات الرئاسية، عندما أكدّ ـــ وهو الناخب الأسود ـــ أن الحملة لن تدخل في نزاعات عرقية، وهذا عين ما تمَّ في نهاية المطاف، رغم صدور بعض الاستفزازات الجمهورية، بما يُفيد أن انتخاب أوباما، كان يفترض أنه سيغضُّ الطرف عن الخوض في تسوية نهائية لهذا الملف المفتوح على لائحة من الاحتمالات المتفائلة والمتشائمة في آن، وأن أي خوض له في القضايا العرقية، قد يتسبّب في ردود فعل، لا يمكن إلا أن تخدم مصالح الجمهوريين، الذين يتجهون بشكل أو بآخر، نحو الانقلاب على الديمقراطيين في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.