مسجد نيويورك .. اليمين الأمريكي الجديد ينفخ الروح في الإسلاموفوبيا
على نحو يعكس الحالة التي يعيشها المجتمع الأمريكي والقوى المحركة له ومحاولتها الرامية استعادة روح الإسلاموفوبيا، بقدر ما يعكس هذا وجود قوى جديدة داخل الإدارة الأمريكية الحالية تؤمن بالحرب وتؤمن بالشحن الديني، ولهذا لم تتورع الصحافة الأمريكية من السخرية ونقد موافقة الرئيس الأمريكي أوباما على بناء مسجد في نيويورك، منح اللوبي الأمريكي الذي يرفع شعار ''أوقفوا الأسلمة .. دعوهم يذهبون'' فرصة تاريخية لإعادة إدارة التعبئة الإعلامية والسياسية على نحو جديد.
صحيفة ''ديلي سكويب'' وفي خبر مفبرك لها وعلى موقعها الإلكتروني أكدت أن الرئيس الأمريكي أوباما طلب قبل سفره لقضاء إجازة قصيرة, تركيب تحسينات جديدة في البيت الأبيض، واستقدم مهندسين من السعودية لتركيب منارات وقبة فوق البيت الأبيض، إضافة إلى حمام تركي في الطابق الثالث، وجناح إسلامي قرب الجناح الغربي في البيت الأبيض، وذلك حسبما ذكر أحد موظفي البيت الأبيض لمحطة ''إي بي سي''.
وأضاف الموقع في خبره المفبرك, أن الرئيس أوباما أكد في بداية إجازته في مصيف مارثا فينيارد, أنه سيطبق شعار حملته الانتخابية حول التغيير، حيث قال: رفعت المنارات فوق البيت الأبيض، وستغطي قبة المبنى كاملاً، وهذه هي أمريكا أرض الأعراق والأديان والحرية، وقال الموقع إن حديث أوباما كان مؤثراً جداً حتى إن مراسلي قناة ''فوكس'' تناثرت دموعهم.
قد تكون الضجة الأمريكية القائمة هذه الأيام حول بناء مسجد في نيويورك بالقرب من مكان مركز التجارة العالمي الذي دمره هجوم 11 أيلول (سبتمبر) أكبر هدية لنزعة الإسلاموفوبيا السائدة بشكل لافت خلال السنين الأخيرة في العديد من الدول الغربية، الأوروبية والأمريكية تحديدا، لولا أن الحالة الأمريكية مع ضجة ''مسجد بيت قرطبة''، يُحسب لها الكشف الجلّي عن أحد معالم مشروع أيديولوجي أمريكي يحمل شعار ''أوقفوا المد الإسلامي'' وكفى!
لا يتعلق الأمر بضجة عابرة تهُمُّ قلاقل تشييد مسجد قرب موقع اعتداءات نيويورك وواشنطن، بما يُفسر الحملة العدائية التي تقودها العديد من المنظمات والمؤسسات، وفوق هؤلاء جميعا، رموز الحزب الجمهوري (الذي كان يمثله سابقا الرئيس جورج بوش الابن) وما تبقى من رموز تيار ''المحافظين الجدد''، وأيضا، تيار وازن في الحزب الديمقراطي الذي يُمثّله حاليا الرئيس باراك أوباما، صاحب التأييد العلني لفكرة تشييد المسجد؛ دون الحديث عن إعلان سياسيين من الحزب الجمهوري في ولايات مختلفة معارضتهم للمشروع، مع أن قضية المسجد كان من المفترض أن تكون قضية محلية خاصة بولاية نيويورك ذاتها، ولا تمت بصلة لسياسي مرشح في ولاية جنوبية، أما الرأي العام الأمريكي، فتشير أحدث استطلاعات الرأي إلى أن أكثر من 60 في المائة من الأمريكيين يعارضون بناء المركز على مقربة من مركز التجارة العالمي سابقا!
المسألة أكبر بكثير من اختزالها في حملة عدائية اندلعت الأسابيع الأخيرة في نيويورك لأنها تندرج في سياق أعم وأشمل، يهُمُّ واقع السياسة الأمريكية الرسمية في التعامل مع القضايا العربية والإسلامية، وليست القلاقل الأيديولوجية، في شقها المتشدد والعنصري الذي ميّزت ما اصطلح عليه إعلاميا بقضية ''جراوند زيرو'' أو ''مسجد بيت قرطبة'' سوى نموذج تطبيقي لأبسط انعكاسات تلك السياسات الأمريكية على واقع الأقلية المسلمة في الولايات المتحدة من جهة، ونموذج تطبيقي دال على طبيعة انتظارات العرب والمسلمين من ''الوعود الكبرى'' التي قدّمها باراك أوباما لصناع القرار والرأي العام في الوطن العربي والعالم الإسلامي، أثناء خطابه الشهير المؤرخ في 4 حزيران (يونيو) 2009 في القاهرة؛ حيث تبيّن أن تفعيل تلك الوعود لم يخرج عن دائرة اختيار المسلمة الأمريكية داليا مجاهد لتكون مستشارة لباراك أوباما في مكتب ''الشراكة مع الأديان''، واختياره المسلم الأمريكي رشاد حسين ليكون مبعوثه الخاص لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وانتهت ''الحكاية الصغرى'' ـــ بتعبير مُنظري تيار ''ما بعد الحداثة'' ـــ ويحدث هذا التعامل مع ديانة يعتبرها أوباما شخصيا ''جزءا من أمريكا''، بدلالة وجود سبعة ملايين مسلم، وأكثر من 1200 مسجد في مختلف الولايات المتحدة!
ضمن نفس سياق صعود أصوات تيار أمريكي يرفع شعار ''أوقفوا المد الإسلامي''، يجب التذكير بصدمة إعلان رجال دين في كنيسة في ولاية فلوريدا، يُخطّطون منذ بضعة أسابيع لإحراق المصحف الشريف يوم ذكرى هجوم 11 أيلول (سبتمبر),
وضمن السياق نفسه دائما يجب تأمل دلالات الافتتاحية الصادمة التي جاءت في يومية ''الواشنطن تايمز'' المؤرخة في 11 أغسطس (آب) وتطرقت إلى حدث عربي وإسلامي حظي بالكثير من الفخر والاعتزاز من قبل المسلمين أجمعين، (من قِبل المسلمين السُّنة، باعتبارهم يُجسّدون الأغلبية في العالم الإسلامي برمته)، ونتحدث عن منعطف الشروع في التشغيل التجريبي لساعة عملاقة أُنشئت على برج شاهق في مكة المكرمة، وتُعدُّ ـــ بيت القصيد الذي ''استفز'' الافتتاحية الأمريكية ـــ أكبر ساعة في العالم!
جاء عنوان الافتتاحية الاستفزازية كالتالي: ''ليس هناك وقت للإسلام: الساعة العملاقة ترمز للأطماع الدينية التوسعية''، وجاء في الافتتاحية الإسلاموفوبية أن ''هذه الساعة لا ترمز إلى توقيت زمني بقدر ما هي دعاية لنشر الإسلام، فقد كتب عليها الله أكبر، وتضيء أنوارها البيضاء والخضراء خمس مرات في اليوم لتذكر الناس بأوقات الصلاة''. (وجب التذكير الضروري في هذا المقام أن يومية ''الواشنطن تايمز'' تملكها اتصالات الأخبار العالمية News World Commnications، وتنتمي إلى تكتل وسائل إعلامية عالمية يملكها اتحاد الكنيسة Unification Church في الولايات المتحدة.
إذا تركنا الساحة الأمريكية التي تعيش، كنظيرتها الأوروبية، على إيقاع فورة في الممارسات المحسوبة بشكل أو بآخر على التيار الإسلاموفوبي الصرف، في شقيه المرن (مع ما يصدر عن الأحزاب اليمينية ذات الثقل السياسي المتواضع في المجالس النيابية) والمتطرف (مع ما يصدر عن حكومات يمينية أو تيارات دينية مسيحية متطرفة)، فإن مستجدات التعامل الأمريكي مع أبرز القضايا العربية والإسلامية، تؤكد بالملموس، لمن يحتاج إلى بعض التذكير والتأكيد, أن الأمور ليست بالصورة الوردية التي توقعها الرأي العام العربي والإسلامي حتى العالمي (في شقه البيئي واليساري على الخصوص)، عندما صعد الرئيس باراك أوباما إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، إلى درجة حديث العديد من المتتبعين والمعلقين عن أفول نجم تيار ''المحافظين الجدد''.
والمثير في ''جديد'' السياسة الأمريكية تجاه قضايا الشرق الأوسط (''بالون اختبار'' وحجر الزاوية في التعامل الأمريكي الرسمي مع أبرز القضايا العربية والإسلامية المصيرية)، أننا نجد صعوبة في التفريق بين سياسات الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهنا مربط الفرس كما تقول العرب، لأنه إذا كانت هناك اختلافات جوهرية في تدبير الحزبين العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والدينية داخل الرقعة الأمريكية، فالأمر مختلف بالكلية عندما يتعلق الأمر بتدبير ملف الشرق الأوسط، وتدبير واقع العلاقات مع الحليف الاستراتيجي شبه المقدس: إسرائيل دون سواها.
يكفي في هذا الصدد تأمل تصريحات باراك أوباما في مقر لوبي ''الإيباك'' AIPAC، التي جعلته يعلن بـ ''أغلظ الأيمان''، أن ''أمن إسرائيل مُقدّس، غير قابل للتفاوض''، وقد صرّح بذلك في 18 حزيران (يونيو) 2008، قبل توليه الرئاسة، فما الذي ينتظره الرأي العام العربي والإسلامي، وقد أصبح اليوم خليفة جورج بوش الابن، سوى أن يؤكد في مرحلة ما بعد الفوز بمنصب الرئاسة، أنه لن يرضى بـ ''أقل من مستوى خمس نجوم للعلاقة التي تجمع الولايات المتحدة بإسرائيل''، كما أعلن فيما بعد، مباشرة بعد دخوله البيت الأبيض.
من باب التذكير أيضا، تؤمن وزير الخارجية الأمريكية الحالية، هيلاري كلينتون إيمان ''عين اليقين'' المسيحي المتشدد أن ''القدس عاصمة أبدية وموحّدة لإسرائيل''، وصرّحت بهذا اليقين في عز حملة الترشيح لمنصب عمدة نيويورك (المدينة اليهودية بامتياز)، ولذلك، فإنها تجتهد، ما دامت تجلس على كرسي الخارجية، لأن تكون ''نشطة وملتزمة في الدفاع عن إسرائيل قويّة وآمنة وقادرة علي العيش في سلام مع جيرانها، على أن تكون سفارة الولايات المتحدة واقعة في عاصمتها، القدس''، حسبما جاء في التصريح ذاته!
وتزداد معالم تيار ''أوقفوا المد الإسلامي'' وضوحا عندما نتذّكر فقط، ولا نرتحل أو نُفكّك، معالم السياسة الأمريكية في العراق وأفغانستان وغيرهما من الدول العربية والإسلامية، بين حصار هذا القطر وإرهاب الثاني وفي أحسن الأحوال الضغط على الثالث وعلى الباقي، تحت لائحة من الشعارات والمشاريع، قد يكون أحدثها الخطاب الفضفاض الذي يتحدث عن ''الحرب على الإرهاب''، الذي اضطرت الإدارة الأمريكية أن تعدله منذ بضعة أشهر فقط نحو ''الحرب على الجماعات المتطرفة''.
بقيت أمامنا ورقة التطرف الإسلامي التي لجأ إليها المعارضون الأمريكيون (من ''المحافظين الجدد'' ومن الحزبين الجمهوري والديمقراطي ومن اللوبيات اليهودية والمسيحية) لمشروع ''مسجد بيت قرطبة''، ولم تخرج عن الشعار البديل الذي عوّض أطروحة ''الحرب على الإرهاب''، أي الحرب على تنظيم ''القاعدة'' والحركات الإسلامية ''الجهادية''، حيث نقرأ في ثنايا بعض اللافتات التي رفعها المناهضون النيويوركيون لتشييد ''مسجد بيت قرطبة''، الشعارات التالية: ''نريد ولاية تنيسي خالية من الإرهاب''، ''اهزموا الجهاد العالمي الآن''، في حين كتب مجهولون على جدران منزل يُستخدم كمسجد: ''أيها المسلمون، عودوا إلى بلادكم''، ومعلوم أن الحرب الطويلة القائمة بين الإدارة الأمريكية والحركات الإسلامية ''الجهادية''، أصبحت أشبه بـ ''شمّاعة'' يتم توظيفها من قبل صناع القرار الأمريكي لخدمة مصالح العقل السياسي الأمريكي، سواء تعلق الأمر بالضغط على الدول العربية والإسلامية (رغم المجهودات الجبارة التي بذلتها العديد من هذه الدول في معرض التصدي لنزعات التطرف الإسلامي، ونخص بالذكر نماذج السعودية ومصر) أو خدمة مصالح الكيان الإسرائيلي، دون الحديث عن خدمات أخرى لا تقل أهمية في حسابات العقل السياسي البراجماتي.
ومن ''سوء حظ'' هذا العقل السياسي الأمريكي، الذي يتّجه شيئا فشيئا نحو تبني خيار/شعار ''أوقفوا المد الإسلامي''، أن بعض المسؤولين الأمريكيين، يخرجون عن خط ''المحرمات السياسية'' بما يكشف حجم التناقضات الفاضحة بين القول والممارسة، ولن تكون آخر هذه المبادرات، ما صدر عن الأدميرال جيفري هاربسون قائد القاعدة البحرية في قاعدة جوانتانامو الكوبية، عندما أكد صراحة منذ أسبوعين فقط، أن ''إغلاق المعتقل الذي يضم سبعة معسكرات لن يتم قبل ستة أشهر''، هذا في حالة تلقيه ''الأوامر بإغلاقه من الرئيس باراك أوباما وأركان إدارته''، أي بتأخير جديد عن الموعد الذي حدّده الرئيس بعد توليه السلطة عام 2009، والطريف أو الدال في واقع الأمر، أن قرار إغلاق معسكر جوانتانامو، كان واحدا من الأوامر التنفيذية الأولى التي وقعها في كانون الثاني (يناير) الماضي، ولنا أن ''نتفهم''، والحالة هذه، مدى الخدمات الميدانية التي تُقدمها ''ورقة'' الحركات الإسلامية ''الجهادية'' للإدارة الأمريكية في إطالة حرب تخدم مصالح الطرفين معا، على حساب مصالح وأمن ومستقبل الدول العربية والإسلامية، وتخدم أيضا، مشروع/خيار ''أوقفوا المد الإسلامي''، هناك في الولايات المتحدة وفي بعض الدول الأوروبية، فيما يُشبه أكبر هدية تتلقاها نزعة الإسلاموفوبيا سيئة الذكر.